إن تقييم منظومة معقدة بحجم البحث العلمي لأمة بأكملها يتطلب حكمةً وأدوات متعددة الأبعاد. ففي حين أن السعي نحو "النزاهة البحثية" هو غاية وهدف أسمى للجميع، فإن اختزال هذا المفهوم الواسع في مؤشر وحيد وحديث مثل "مؤشر مخاطر النزاهة البحثية (RI²)" قد يقودنا إلى استنتاجات مضللة. فمن منظور علمي، يجب فحص أي أداة قياس بدقة قبل اعتماد نتائجها. يعاني هذا المؤشر، رغم حداثته، من قصور منهجي واضح، فهو يعتمد على متغيرين فقط، ويقوم بالجمع بين سحب ورقة بحثية معينة (Retraction)، وبين حذف مجلة بأكملها (Delisting) من قاعدة بيانات عالمية. هذا الدمج بحد ذاته إشكالي. فسحب الأبحاث العلمية له أسباب متعددة، ولا يعني بالضرورة وجود سوء سلوك متعمد. في كثير من الحالات، يكون السحب ناتجاً عن اكتشاف خطأ غير مقصود، بل إن سحب ورقة من قبل مؤلفيها قد يُعتبر دليلاً على أمانتهم العلمية وحرصهم على تصويب الخطأ. أما الاعتماد على قائمة المجلات المحذوفة، فهو أكثر إجحافاً؛ فقد ينشر باحثٌ ورقة في مجلة مرموقة ومصنفة، ليتم حذفها بعد سنوات لأسباب إدارية أو تتعلق بسياسات قاعدة البيانات نفسها، وهي أمور خارجة تماماً عن إرادة الباحث ومؤسسته. لذا، فإن إصدار حكم قاطع على سمعة الجامعات الأردنية بناءً على هذا المؤشر المحدود لا يمثل قراءة دقيقة للواقع، وهو ما أكدته أيضاً جهات رسمية في دول شقيقة اعتبرت هذا المؤشر غير معتمد لديها.
وفي مقابل الصورة المجتزأة التي قد ترسمها بعض المؤشرات المحدودة، تقف الجامعات الأردنية شامخة بإنجازاتها الملموسة التي تعكسها أرقى التصنيفات العالمية. فالادعاءات التي تضع الجامعات الأردنية في "وضع سيء جداً" تتناقض بشكل صارخ مع الأداء المتميز والموثق لهذه المؤسسات في تصنيفات عالمية رصينة مثل "كيو إس (QS)" و"التايمز (THE)". في أحدث نسخة من تصنيف "QS العالمي للجامعات لعام 2025"، تقدمت الجامعة الأردنية إلى المرتبة 368 عالميًا، محققةً قفزة هائلة من المرتبة 498 في العام السابق. كما حققت جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية تقدماً ملحوظاً بدخولها في الفئة 554 عالمياً بعد أن كانت في الفئة 731-740، وحافظت جامعة عمان الأهلية الخاصة على مكانتها ضمن أفضل 850 جامعة عالمياً، مما يعكس التزاماً راسخاً بالجودة عبر مختلف أنواع المؤسسات التعليمية.
ولا يقتصر هذا التقدم على الترتيب العام، بل يمتد إلى التخصصات الأكاديمية الدقيقة، مما يدل على عمق التميز وجودته. فقد أظهر تصنيف "QS للتخصصات لعام 2025" أن الجامعة الأردنية وحدها تمكنت من إدراج 25 تخصصًا ضمن التصنيف، مع ظهور تخصصات في مصاف النخبة العالمية؛ حيث حلّ تخصص التمريض في المرتبة 47 عالميًا، والصيدلة وعلم الأدوية في المرتبة 100، والهندسة والتكنولوجيا في المرتبة 150 عالميًا. هذا الأداء الاستثنائي، والذي يُعد برهاناً قاطعاً على جودة المخرجات البحثية والتعليمية، لا يمكن لمؤشر أحادي الجانب أن يلتقطه أو يعبر عن قيمته الحقيقية.
إن القيمة الحقيقية للبحث العلمي لا تقاس بالتصنيفات فحسب، بل بأثره الملموس في حياة الناس. وهنا يسطع نجم الباحث الأردني بشكل لافت، خاصة في مجال العلوم الطبية والصيدلانية. وشرف لي ككاتب هذه السطور، أن أكون جزءاً من هذه المسيرة، حيث تكللت أبحاثي في مجال "الأخطاء الطبية" و "مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية" و "فعالية وسلامة لقاحات كوڤيد-19" بصدى عالمي. لقد ساهمت دراساتنا، التي أجريت على مرضى أردنيين، في فهم أعمق لكيفية تأثير هذه المواضيع على المرضى، وقد تم تبني توصياتنا البحثية وإدراجها ضمن التوجيهات العلاجية العالمية الصادرة عن جهات مرموقة دولياً، مما ساهم في جعل بعض الاجراءات العلاجية أكثر أماناً وفعالية للمرضى حول العالم. وهذه ليست قصة فردية، بل هي جزء من نسيج متكامل من الإنجازات. فزملائي الباحثون في مختلف الجامعات الأردنية الحكومية والخاصة تركوا بصماتهم أيضاً؛ فهناك أبحاث رائدة من الأردن ساهمت في تعديل بروتوكولات علاجية لأمراض السرطان، ودراسات أخرى قدمت فهماً جديداً لأمراض القلب والأوعية الدموية، وأبحاث ثالثة طورت من أساليب التشخيص المبكر للأمراض الوراثية. هذه الإنجازات النوعية، التي تحدث فرقاً حقيقياً في الممارسة السريرية العالمية، لا يمكن لمؤشر بسيط أن يلتقط عظمتها أو يعبر عن قيمتها.
ومن المهم الإشارة إلى فلسفة خاصة تنتهجها الجامعات الأردنية، وهي تركيزها الاستراتيجي على بناء القدرات الوطنية الأصيلة. على عكس بعض التوجهات العالمية التي قد تسعى لرفع التصنيف بشكل سريع عبر استقطاب عدد من الأساتذة الأجانب ذوي الإنتاج البحثي العالي جداً، فإن جامعاتنا ركزت تاريخياً على الاستثمار في أبنائها من الأكاديميين والباحثين. قد يكون هذا الطريق أطول وأكثر تحدياً، لكنه يضمن بناء قاعدة علمية وطنية مستدامة ومتجذرة في واقعها ومجتمعها. إن الإنجازات التي نراها اليوم هي نتاج كفاءات أردنية خالصة، وهذا بحد ذاته يجعل من تصنيفنا الدولي وإنجازاتنا البحثية أكثر أصالة وقيمة. وللمضي قدماً، يتوجب علينا تبني رؤية جماعية تعزز هذا البناء. لا بد من التحول نحو إطار وطني شامل للتقييم، يتجاوز المقاييس الكمية البسيطة ليركز على جودة المخرجات وأثرها الحقيقي. كما يجب تعزيز جسور التعاون مع القطاع الصناعي، وتوفير تمويل مستدام وموجه يخدم الأولويات الوطنية الاستراتيجية في الصحة والمياه والطاقة. والأهم من ذلك كله، علينا كجهات رسمية وإعلامية ومجتمعية أن نحتفي بنجاحاتنا وأن نبني سردية وطنية قائمة على الثقة، تسلط الضوء على الإنجازات العالمية لباحثينا. فالبحث العلمي في الأردن هو قصة إنجاز حقيقي، وأثر ملموس، وهوية وطنية نفخر بها ونعمل على رفعتها كل يوم