روسيا تغيّر قواعد اللعبة في سوريا: تحركات غامضة من حميميم إلى القامشلي تكشف خريطة جديدة للنفوذ

07c094fc-af60-4a57-9d96-9357a36565e0
بشار العتمة

الدار -

بشار العتمة
في خطوة غير مسبوقة منذ بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، بدأت طائرات شحن روسية ضخمة بالتحرك من قاعدة حميميم الجوية في الساحل السوري إلى مطار القامشلي في أقصى شمال شرق البلاد، في تحركات رصدتها الأقمار الصناعية خلال الأشهر الماضية وأثارت تساؤلات عميقة حول النوايا الحقيقية لموسكو في المنطقة، وحول ما إذا كانت هذه التحركات تمثل بداية لمرحلة جديدة من إعادة التموضع العسكري الروسي داخل الأراضي السورية. الصور التي التقطت بالأقمار الصناعية في ديسمبر 2024 أظهرت عمليات تفكيك واضحة لأجزاء من أنظمة الدفاع الجوي الروسية في قاعدة حميميم، بما في ذلك رادارات ومنصات إطلاق من طراز S‑400، إلى جانب ظهور طائرات شحن استراتيجية من نوع An‑124 وIl‑76 تقوم بنقل معدات ثقيلة لم يُفصح عن طبيعتها، وهو ما دفع محللين دوليين إلى الربط بين هذا التحول وبين تضاؤل أهمية الوجود الروسي في الساحل السوري لصالح التمدد شرقًا نحو مناطق النفط والثروات، وتحديدًا في القامشلي.
خلال شهري مايو ويونيو من العام 2025، رُصدت طائرات روسية تُقلع وتهبط بانتظام في مطار القامشلي، وهو مطار كانت تستخدمه روسيا في السابق بشكل محدود، لكنها بدأت الآن بتوسيعه واستخدامه كمركز لوجستي متقدم، وفق تحليل نشرته منصة "إيكاد" المعنية بمتابعة تحركات الجيوش عبر الأقمار الصناعية مفتوحة المصدر. التحليل أشار بوضوح إلى أن هذه التحركات لم تكن مجرد دعم لوجستي عابر، بل تشي بتأسيس قاعدة عمليات روسية جديدة في شرق سوريا، وهي منطقة تخضع نظريًا لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيًا، لكن التنافس فيها على أشده بين واشنطن وموسكو وطهران.
المعلومات المتقاطعة التي جمعتها المنصات الاستخباراتية المفتوحة تدفع نحو فرضية أن روسيا تسعى عبر هذا التموضع الجديد إلى أكثر من مجرد تعزيز نفوذها، بل إلى إعادة إحياء شبكات النفوذ القديمة للنظام السوري في المنطقة الشرقية، من خلال استقدام ضباط سابقين من الأجهزة الأمنية المنحلة، والذين فرّ بعضهم إلى الساحل   ، ليعاد توزيعهم الآن على مواقع شرق البلاد بإشراف روسي مباشر. ويتزامن هذا التحول مع تراجع ملحوظ في وتيرة التعاون العسكري الروسي مع جيش النظام في الساحل، وتنامي دور عناصر محلية من فلول النظام السابق التي تم استدعاؤها مؤخرًا إلى مطار القامشلي، وسط تكتم شديد وتغييب لأي إعلان رسمي.

روسيا التي بدت في الأشهر الأخيرة وكأنها بصدد الانسحاب الجزئي من المشهد السوري، تعود الآن من بوابة القامشلي، لتؤكد أنها لم تغادر فعليًا، بل غيّرت قواعد اللعبة، ومواقع تموضعها، وربما حتى شركاءها المحليين. فالتحركات الجوية لا تعكس فقط نوايا عسكرية، بل تكشف عن استعداد روسي لتشكيل توازن جديد في شرق سوريا، حيث تتقاطع مصالح الأكراد والأمريكيين والإيرانيين وفلول النظام، وحيث يبدو أن موسكو اختارت أن تعود عبر طائرات الشحن، لا عبر المفاوضات.
الأقمار الصناعية لا تكذب. ومطار القامشلي الذي كان مجرد نقطة هامشية على خريطة النزاع السوري، تحوّل خلال أشهر قليلة إلى مركز ثقل استراتيجي، تعبره طائرات روسية محمّلة بالمعدات والأسرار، وتحرسه قوات موالية لم تعد ترفع شعارات الأسد كما في السابق، بل ترفع شعارات الولاء للنفوذ الروسي الصاعد في الشرق. وبعيدًا عن صخب الإعلام الرسمي، تدور في الكواليس ترتيبات لم تُحسم بعد، لكنها تعكس بوضوح أن ما يجري في شرق سوريا اليوم هو إعادة رسم للخريطة العسكرية والسياسية للبلاد، بخطوط روسية دقيقة، مرسومة بظل طائرات حميميم المنخفضة التي ما عادت تحلّق فوق الساحل، بل وجّهت بوصلة جناحيها نحو القامشلي.

أخبار متعلقة