خلفية القرار: من التصعيد إلى الانفتاح التدريجي
طوال السنوات الماضية، شكّلت العقوبات الأمريكية جزءاً محورياً من أدوات الضغط على الحكومة السورية. بدأت العقوبات الاقتصادية لأول مرة في عهد الرئيس جورج بوش الابن عام 2004، وتوسعت بشكل غير مسبوق بعد اندلاع النزاع السوري عام 2011، وصولاً إلى ما عُرف بـ"قانون قيصر" الذي فرض قيودًا مشددة على التعاملات المالية والاقتصادية مع دمشق.
إلا أن الإدارة الأمريكية الحالية، وعلى رأسها الرئيس ترامب، اتخذت مسارًا جديدًا بدأ يتبلور خلال الأشهر الماضية، حيث شهدت الكواليس الدبلوماسية اتصالات مكثفة بين واشنطن ودول إقليمية وأوروبية للبحث في آليات تخفيف الضغط عن سوريا، ضمن رؤية أمريكية جديدة تهدف إلى إعادة ضبط العلاقات مع عدد من دول المنطقة.
الأبعاد الاقتصادية: هل يبدأ التعافي؟
القرار الأمريكي يحمل في طياته آثارًا اقتصادية عميقة قد تتجلى بشكل سريع خلال الأشهر المقبلة. أولى المؤشرات جاءت من دمشق، حيث شهدت الأسواق حركة نشطة منذ الساعات الأولى للإعلان. ارتفعت قيمة الليرة السورية بشكل ملحوظ أمام الدولار الأمريكي، وسجلت سوق الأسهم المحلية مكاسب هي الأكبر منذ أكثر من عشر سنوات.
في هذا السياق، يرى خبراء اقتصاديون أن رفع العقوبات سيفتح الباب أمام تدفق الحوالات المالية من الخارج، واستئناف العمليات التجارية مع شركات أجنبية، إضافة إلى عودة بعض خطوط الإمداد التي توقفت منذ سنوات. كما من المتوقع أن تشهد قطاعات مثل البناء والطاقة والنقل دفعة قوية بفعل اهتمام مستثمرين من دول الخليج وأوروبا.
رغم هذه المؤشرات الإيجابية، يبقى التعافي الاقتصادي الكامل رهينة عدة عوامل، أبرزها قدرة المؤسسات السورية على استيعاب الاستثمارات الجديدة، وتحقيق حد أدنى من الاستقرار المالي والسياسي لضمان استدامة النمو.
الانعكاسات الدبلوماسية: عودة تدريجية إلى الحضور الدولي
على المستوى الدبلوماسي، فتح القرار الأمريكي الباب واسعًا أمام استئناف الحوارات السياسية بين دمشق وعدد من العواصم الغربية. عدة دول أوروبية أعلنت أنها بصدد إعادة تقييم سياساتها تجاه سوريا، فيما تحدثت مصادر في الاتحاد الأوروبي عن استعداد بروكسل لمراجعة حزمة العقوبات الأوروبية خلال الأسابيع المقبلة.
وفي الشرق الأوسط، يُتوقع أن يشهد التقارب السوري-العربي دفعة إضافية، خاصة بعد أن كانت دول مثل السعودية والإمارات قد أعادت فتح سفاراتها في دمشق خلال العام الماضي، وأطلقت سلسلة مبادرات اقتصادية مشتركة.
إلا أن واشنطن أوضحت في بيان رسمي أن رفع العقوبات لا يعني عودة فورية للعلاقات الدبلوماسية الكاملة، بل هو خطوة مشروطة بسلوك الحكومة السورية خلال الفترة المقبلة، خصوصًا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وملف المعتقلين السياسيين، والتعاون في مكافحة الإرهاب.
الهواجس الأمنية: الخطوط الحمراء لا تزال قائمة
رغم الأجواء الإيجابية التي رافقت القرار، لم تغب المخاوف الأمنية عن المشهد. إسرائيل، الحليف الاستراتيجي لواشنطن في المنطقة، أعربت عن قلقها من أن يؤدي رفع العقوبات إلى تعزيز النفوذ الإيراني داخل سوريا، وزيادة حجم الدعم الذي تتلقاه جماعات مسلحة مدعومة من طهران.
في المقابل، أكدت الإدارة الأمريكية أن العقوبات الفردية التي تستهدف شخصيات سورية بارزة، بما في ذلك الرئيس بشار الأسد وأفراد من دائرته المقربة، ستظل سارية، كما ستبقى الإجراءات المرتبطة بتمويل الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان قائمة.
مسؤولون أمريكيون أشاروا إلى أن وزارة الخزانة ستُبقي آلية مراقبة دقيقة على التعاملات المالية المرتبطة بسوريا، لضمان عدم استغلال الانفتاح الاقتصادي في تمويل أنشطة غير مشروعة.
ملف إعادة الإعمار: فرص وتحديات
القرار الأمريكي يعيد إلى الواجهة ملف إعادة إعمار سوريا، الذي ظل مجمداً لسنوات بفعل القيود الدولية على التمويل والمساعدات. التقديرات الدولية تشير إلى أن كلفة إعادة إعمار البلاد قد تتجاوز 400 مليار دولار، وهو ما يتطلب مشاركة دولية واسعة.
شركات أوروبية وخليجية أبدت اهتماماً أولياً بالدخول إلى السوق السورية، خصوصًا في قطاعات البنية التحتية والطاقة. إلا أن معظم هذه الشركات تشترط وجود بيئة قانونية مستقرة، وضمانات بعدم التعرض لعقوبات مستقبلية.
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، رغم ترحيبهما الحذر بالقرار الأمريكي، لم يصدرا حتى الآن أي موقف رسمي بشأن إمكانية تقديم قروض أو دعم مالي مباشر لسوريا، وهو ما يضع دمشق أمام تحدي إثبات الجدية في تطبيق إصلاحات اقتصادية وسياسية حقيقية.
السيناريوهات المحتملة: بين الانفراج والتصعيد
القرار الأمريكي يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات متباينة. السيناريو الأول يتمثل في استثمار سوريا لهذه الفرصة عبر تبني إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة، تُمهد لعودة تدريجية إلى الحظيرة الدولية، وتحقيق انفراجة حقيقية في الوضع الداخلي.
أما السيناريو الثاني، فهو العودة إلى سياسة المماطلة، ما قد يؤدي إلى إعادة فرض العقوبات مجددًا في حال عدم تحقيق تقدم ملموس في الملفات الأساسية.
على الصعيد الإقليمي، قد يؤدي رفع العقوبات إلى إعادة تشكيل التحالفات، وسط توقعات بزيادة الحضور الخليجي في دمشق، مقابل استمرار تحفظات من بعض العواصم الغربية.
لحظة فارقة في تاريخ سوريا الحديث
في المحصلة، يمثل قرار رفع العقوبات عن سوريا لحظة فارقة في تاريخ البلاد الحديث. هو فرصة نادرة أمام دمشق لإعادة بناء اقتصادها، واستعادة موقعها الدبلوماسي في المنطقة والعالم. لكنه في الوقت ذاته اختبار حقيقي لمدى استعداد القيادة السورية للتجاوب مع المتطلبات الدولية، وتحقيق تغيير حقيقي يلبي تطلعات الشعب السوري بعد سنوات من الحرب والعزلة.
المرحلة المقبلة ستكون محكومة بمزيج من الحذر والأمل... وعلى الجميع الانتظار لرؤية كيف ستلعب دمشق أوراقها في هذا الظرف الاستثنائي.