"عربات جدعون": الدلالة والأهداف
ترتبط تسمية "عربات جدعون" بدلالات تاريخية وروايات توراتية، وتعود إلى قصة القائد العسكري اليهودي "جدعون بن يوآش"، المذكورة في سفر القضاة، ويأتي استخدامها حديثاً للمرة الثانية، بعد أن استخدم اسم "جدعون" في عملية عسكرية في منطقة بيسان، كانت تهدف في العام 1948 إلى تهجير سكان المدينة. وتعكس العملية التوسع في مصفوفة الأهداف الإسرائيلية، باعتبارها الدلالة الأكثر مُلاحظة بشأن نقل خطاب التهجير إلى مُستوى التنفيذ. إذ سوف ينتج عنها واحدة من أكبر العمليات لتحريك السُكان البالغ عددهم حوالي 2 مليون نسمة منذ اندلاع الحرب، وأكبر تركيز لعدد من السُكان في جيب جغرافي مُحدد، مع مخططات إسرائيل حصرهم في المنطقة الواقعة بين محوري فيلادلفيا وموراج.
من جهة أخرى؛ ترتبط العملية برسم مُعالم اليوم التالي من الحرب في قطاع غزة، فهي تفترض أن الجيش الإسرائيلي الذي بدء عملية برية واسعة في 18 مايو 2025، بالتزامن مع غارات جوية كثيفة، سوف يقوم بالسيطرة وإقامة بُنية دائمة لاحتلال المناطق التي تم إخلاء سُكانها منها، مع فرض الحُكم العسكري على قطاع غزة، والتحكم في عمليات توزيع المُساعدات، وقد بدأت إسرائيل بالفعل بالتحضير عملياً لتحريك السكان نحو الجنوب، وذلك من خلال تحضير المنطقة الواقعة جنوب رفح لاستقبال سُكان القطاع، واتباع آلية جديدة لتوزيع المساعدات الإنسانية، تتوافق مع ذلك، إذ ستقوم مؤسسة "إغاثة غزة الإنسانية" الأمريكية بتوزيع المساعدات الإنسانية في أربعة مراكز رئيسة تقع ثلاثة منها في جنوب القطاع ومركزاً واحداً في وسطه بالقُرب من معبر نتساريم، ما يعني أن شمال قطاع غزة سيكون خارج ذلك الإطار، وأن على سكانه التوجه نحو معبر نتساريم أو مدينة رفح للحصول على مساعداتهم، وبهذه الطريقة تعتزم إسرائيل دفع السُكان للتوجه جنوباً إلى جانب الضغوط العسكرية الممارسة على مناطق الشمال، حيث بدأت أولى حملات "عملية جدعون" البرية في مدينة دير البلح شمالاً، بالتزامن مع أوامر الإخلاء الصادرة لسكان أقصى شمال قطاع غزة.
تحديات إسرائيلية ودولية أمام أهداف العملية
يطرح التطبيق العملي للخطة الإسرائيلية، واقعاً جديداً في قطاع غزة، سواء في تركيبته الديمغرافية أو مشهده الميداني، ويفرض تحديات على حركة حماس، التي سوف تفقد زخمها في مناطق سًلطتها ونفوذها، وسيطرتها على عمليات توزيع المساعدات أو ضمان أمنها، في وقت تُمارس فيه إسرائيل ضغوطاً على قادتها وسًلطتها في القطاع، لا سيما في تكثيف استهدافها المقرات الوزارية التابعة للحركة وقادتها السياسيين والإداريين منذ استئناف الحرب، وصولاً إلى إعلانها عن استهداف محمد السنوار في 14 مايو 2025، والذي يُرجح على نطاق واسع أنه خلف يحيى السنوار في قيادة الحركة في قطاع غزة. وهي بذلك تُشدد الضغوط على الحركة وتمنحها فُرصة "النزول عن الشجرة" والقبول بالشرط الإسرائيلي بصفقة جزئية تُطلق من خلالها عدداً من المحتجزين الاسرائيليين، في إطار المفاوضات التي يُديرها مبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف، والتي انطلقت في الدوحة في 14 مايو 2025.
مع ذلك؛ تُواجه إسرائيل أيضاً ضغوطاً معقدة ومُركبة، فبعد 19 شهراً من الحرب، وصل الرأي العام العالمي إلى درجة مُرتفعة من رفضها، وهو ما عكسته المواقف الرسمية الأخيرة لقادة الولايات المتحدة وأوروبا، من بينها تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برغبته في إنهاء الحرب، وإقراره في الحالة الإنسانية غير المسبوقة والجوع الذي يُهدد حياة الآلاف من سكان القطاع. وقد سبق ذلك؛ أن ذهبت الولايات المتحدة لإجراء مفاوضات مُستقلة مع حركة حماس أسفرت عن إطلاق الحركة سراح الإسرائيلي الأمريكي عيدان ألكسندر في 13 مايو 2025، والتي اعتبرها ترامب بمثابة "بادرة حسن نية" تجاه الولايات المتحدة. وبذلك هُناك مخاوف إسرائيلية جدية من عُزلة دولية، جراء تضرر علاقاتها مع الإدارة الأمريكية، او نتيجة مواقف الدول الأوروبية الأكثر تشدداً تجاه ضرورة وقف الحرب وإدخال المساعدات، فقد هدد قادة بريطانيا وفرنسا وكندا باتخاذ "إجراءات ملموسة" قد تشمل فرض عقوبات في حالة رفض إسرائيل إدخال المساعدات الإنسانية.
علاوة على ذلك؛ تُواجه إسرائيل عقبات داخلية عدة، ذات أبعاد وتداعيات اقتصادية وقانونية واجتماعية وسياسية وعسكرية، في مُقدمتها نقص أعداد قوات الاحتياط واستنزافها المُستمر طول أمد الحرب، وبشكل يُثير تساؤلات حول قُدرة الجيش الإسرائيلي بالحفاظ على تواجد دائم لقواته في قطاع غزة، بل ورُبما مواجهة تمرد قد تقوده حركة حماس أو الفصائل المسلحة الأخرى، من خلال شنها حرب عصابات قد تزيد من خسائر الجيش. قد تؤثر تداعياته في قُدرة إسرائيل على تحقيق الردع والتفوق من وجهة نظرهم في مناطق أخرى في المنطقة، لا سيما في مواجهة إيران، إلى جانب أن توجّه إسرائيل نحو احتلال قطاع غزة، يأتي على حساب الخطة المصرية لإعادة الإعمار، ويُغلق خيارات المساهمة العربية في اليوم التالي من الحرب، لا سيما من خلال إرسال قوات لحفظ الأمن أو تدريب قوات فلسطينية لهذا الغرض.
تضع عملية "عربات جدعون" الحرب في قطاع غزة، أمام لحظة فارقة ومصيرية، فمن جهة يعني نجاحها انتهاء الحرب وفق الأهداف الإسرائيلية، لكن من جهة أخرى؛ يقود استمرار الحرب لمدة طويلة قادمة، إلى استنزاف الجيش الإسرائيلي في حرب عصابات، قد تؤدي إلى تحولات سياسية وعسكرية في الداخل الإسرائيلي، وبشكل عام تبدو محطة توقف "عربات جدعون" عند واحد من هذه السيناريوهات:
السيناريو الأول: تحقيق العملية لأهدافها
إن تحقيق أهداف العملية المُعلَنة وغير المُعلَنة، يعني انتهاء الحرب بشكل رسمي وكامل، ويُعتبَر هذا السيناريو الأسوأ بالنسبة لقطاع غزة وسكانه والحالة الإنسانية غير المسبوقة فيه، خاصةً وأن المشهد الميداني الحالي في القطاع يتوافق مع المخططات الإسرائيلية، من حيث عدم قابلية العديد من مدنه وأحيائه للعيش، بالإضافة إلى النوايا الواضحة للحكومة الإسرائيلية للدفع بالعملية نحو تحقيق أهدافها، إذ نشرت هيئة البث الإسرائيلية في 24 مايو 2025 عن إدخال الجيش كافة ألوية المشاة والمدرعات النظامية إلى القطاع، ضمن خطة تقضي بإدخال خمس فرق عسكرية. مع ذلك، تُواجه إسرائيل تحديات في استكمال العملية، بالنظر إلى محدودية الوقت المُتاح لها، مع تضاعف الضغوط الدولية والإقليمية، وعدم وجود دول داعمة لمخططات التهجير أو مُستعدة لاستقبال سكان قطاع غزة. ما يعني أن الجيش الإسرائيلي سيبقى على احتكاك طويل الأمد مع سكان قطاع غزة، وما يعنيه ذلك من استنزاف مُتواصل لقدراته، لا يبدو أن لإسرائيل قُدرة على الصمود فيه بعد 19 شهراً من الحرب.
السيناريو الثاني: توقف العملية
قد تتوقف العملية بعد تحقيق جزء من أهدافها، أو تركيزها بشكل أساس على مناطق أقصى شمال قطاع غزة، أو نتيجة لعدم امتلاك الوقت الكافي لتطبيقها بشكل كامل، فقد سبق للجيش الإسرائيلي أن اختبر صعوبة العمل ميدانياً في قطاع غزة، خاصة في المناطق السكانية، فقد استغرقت عملية "مخيم جباليا" في أكتوبر 2024" أكثر من شهر، وكانت العملية الثالثة المُركزة في منطقة جباليا منذ اندلاع الحرب، ما يعني أن تطبيق ذات النموذج على مختلف مناطق القطاع يحتاج إلى مدة قد تستغرق أعواماً، ما قد يدخلها في حالة من الجمود الاستراتيجي، إن لم تكن الحرب قد دخلتها بالفعل، حيث لم يعد ما يُمكن للقوة العسكرية تحقيقه. وأن النتائج القادمة يجب أن تكون سياسية. ويُمكن توقف العملية جراء حدوث اختراق في مفاوضات وقف إطلاق النار، والذي قد يبدأ مؤقتاً وفق المقترح الأخير للمبعوث الأمريكي، قبل أن يتوسع إلى مفاوضات أشمل لوقف كامل وشامل للعمليات العسكرية، ، خاصة وأن المفاوضات لم تعد حصراً بين طرفي الحرب، ودخلت الولايات المتحدة طرفاً رئيساً في محادثاتها مع حركة حماس، ويمكن لنتائج هذه المحادثات أن تشكل مخرجاً وحدّاً للحرب.
السيناريو الثالث: تعثر العملية
وذلك يعني عدم قُدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها، في مدة زمنية مُحددة، ما يُحولها إلى نمط من أنماط استمرار الحرب التي بدأت في 7 أكتوبر 2023، واستمراراً لاستنزاف الطرفين بشكل يُضاعف من خسائر حركة حماس ويفقدها القدرة على بسط سلطتها في قطاع غزة، ويؤدي إلى انهيار الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، بعد ان وصلت الحرب مرحلة "جمود استراتيجي"، وأصبحت تشكل عبئاً لا يُمكن تحمله بالنسبة لإسرائيل، كما ان استمرار العملية دون إطلاق سراح المحتجزين يُهدد حياتهم، وتحذر جهات إسرائيلية من تلك التهديدات التي تُحيط بالمحتجزين، ما قد يدفع إلى تغيير كبير وحاد في وجهة نظر الشارع الإسرائيلي تجاه الحكومة واطرافها.