القمة العربية ماذا أخفت؟

عُقدت القمة العربية الطارئة في مصر لبحث اليوم التالي في غزة بأمال كبيرة وبمخاوف مشروعة، فبعد 15 شهر من حملة عسكرية إسرائيلية غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين طالت مختلف مناحي حياة قاطني القطاع المحاصر منذ 2007؛ لا يزال الأفق السياسي أمام وقف جذري لإطلاق النار متعثراً، فلا وجود لخارطة طريق سياسي تنهي مسبّبات الصراع التي يمكن اختزالها بالاحتلال وما يرافقه من هواجس أمنية إسرائيلية لا تزال حبيسة جدار جيبوتنسكي الحديدي.
ومما عقّد المشهد في القطاع تولي إدارة أمريكية مقرّبة أيديولوجياً من فكر يمين اليمين الإسرائيلي فيما بتعلق بأرض الميعاد، فلم يكن ترامب ليتم الشهر الأول من تنصيبه رئيساً حتى أطلق سلسلة من التصريحات والمواقف بعضها متناسق إزاء مستقبل غزة تتمحور حول تصوّر لحل "عملي" ونهائي يقوم على تهجير قاطني غزة نحو وجهات أخرى وتحويل غزة من ساحة هدم بفعل العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى ريفيرا الشرق الأوسط على سواحل البحر الأبيض المتوسط
ونظرا لما يحمله الترانسفير - الذي وإن بدأ في غزة فإنه لن ينتهي فيها بل سيطال الضفة الغربية والقدس الشرقية - من تداعيات وخيمة قد ترقى إلى "حسم الصراع" وفق منظور متشددي التيارات الدينية والقومية في إسرائيل، تداعت دول عربية في مقدمتها الأردن ومصر الأقرب جواراً وتداخلاً مع القضية الفلسطينية لمزاحمة السردية اليمينية الترامبية وتقديم بديل عملي يقوم على إمكانية "التعمير دون التهجير" وفق خطة شاملة نشرت خطوطها العريضة عشية انعقاد القمة.
سبق القمّة حراك دبلوماسي مكثف أبرزه محطتين: الأولى هي لقاء الملك عبدالله الثاني مع ترامب الذي كان يمكن أن ينتهي إلى اشتباك دبلوماسي مباشر على الهواء مثل اجتماع ترامب - زيلنسكي لولا الحنكة الملكية واستعداد الدبلوماسية الأردنية مسبقاً لطرح الإدارة الأمريكية.
ورغم الظروف الصعبة التي جرى بها اللقاء نجحت عمان في عرض ثوابتها بوضوح في البيت الأبيض وبطريقة بدت معقولة لمختلف المؤسسات السيادية والسياسية التي التقى جلالته مع أركاتها.
أما المحطة الثانية فكانت اللقاء التشاوري في الرياض الذي ضمّ دول مجلس التعاون + مصر والأردن فيما بدا كأنه مجموعة عمل تحضيرية لقمة القاهرة، وهو يكاد يكون خطوة غير مسبوقة، فلم يُعتد أن تسبق القمم العربية العادية وغير العادية اجتماعات عربية محدودة العدد ومحددة الهدف، وهو ما يعكس وجود إرادة عربية لإنجاح الهدف الرئيس المتمثل في عرقلة التهجير ونزع الذرائع الانسانية التي يحاجج بها البعض لتوفير ملجأ آمن لحياة غير خطرة لسكان القطاع.
يناقش تقدير الموقف التالي المشهد العام الذي عقدت فيه القمة، ويسلط الضوء على أبرز ملامح الخطة المصرية، ويحاول بيان الجدوى العملية لهذه الخطة التي تأتي واحدة من حلقات الاشتباك العربي مع القضية الفلسطينية.

حضور الشرع وعون : الشرق الأوسط مخفّف النفوذ الإيراني

لم يكن مستوى تمثيل الوقود المشاركة فريداً، حيث تغيب 7 من قادة الدول عن ترؤس وفد دولهم، ولا يعكس هذا الغياب انخفاض الأهمية السياسية للقمة فمن المعتاد تغيّب زعماء عن اجتماعات القمم العادية وغير العادية لا سيما وأن هذا الغياب ليس لدوافع سياسية، باستثاء الجزائر التي تراس وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الأفريقية، أحمد عطاف، وفد بلاده، ووفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية يرجع عدم مشاركة الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في القمة إلى "اختلالات ونقائص شابت المسار التحضيري للقمة"، ومنها "احتكار مجموعة محدودة من الدول العربية إعداد مخرجات القمة دون تنسيق مع بقية الدول العربية المعنية كلها بالقضية الفلسطينية" في إشارة إلى الاجتماع التشاوري الذي عُقد في الرياض قبل القمة بمشاركة دول التعاون الخليجي ومصر والاردن.
أما أبرز الحاضرين فكان الرئيس السوري أحمد الشرع، واللبناني، جوزيف عون، فكلهما قادمين من
"شرق أوسط ما بعد السابع من أكتوبر" ويعبران عن تغيّرات في المعادلة الإقليمية لصالح السيادة الوطنية، وتقويض النفوذ الإقليمي المزعزع للاستقرار. وقد يكون الحراك النشط ل"اليد الطويلة" للقوات الإسرائيلية دور في إزاحة الأسد وفي بلورة ظروف في الداخل اللبناني أفضت إلى انتخاب عون.
ولكن يبقى تثبيت الثنائي "الشرع وعون" مصلحة عربية في الدرجة الأولى.
صحيح أن القمة الطارئة كانت مخصصة لإعمار غزة ودعم حقوق الشعب الفلسطيني.
ولكن لم يغب لنفوذ الإيراني عن أجواء وكواليس القمة، وإن نجحت المبادرة المصرية العربية في التسلل الواقعي إلى تفاصيل المشهد الفاسطيني فإن ذلك يعني خسارة إيران سياسياً لموقعها المتقدم في غزة بعد ان خسرته عملياتياً إثر الضرر الجدي الذي لحق بقدرات حماس العسكرية.
إلا أنه من المضلل الزعم بانحسار وفقدان إيران لوزتها الإقليمي لاعتبارات كثيرة يمكن مناقشتها في ورقة أخرى. فبكل الأحوال لا تزال طهران تمتلك من الأصول الاستراتيجية في الإقليم بما يكفي للقول بأن لها "حضور معتبر". لكنها وبكل تأكيد ليست طهران ما قبل السابع من أكتوبر إذ أن شبكة حلفائها المحليين حول الإقليم جرى تقويضها ومحاصرتها مالياً وسياسياً.
لذلك لم يتضمّن بيان القمة الختامي. ولا حتى معظم خطابات الوفود، أي إشارة إلى "النفوذ الإيراني المزعزع للاستقرار الإقليمي أو الدعوة للكف عن التدخلات في الشؤون العربية. وعليه يمكن القول أن "طيف النفوذ الإيراني" كان هو الغائب الأبرز، ولكن حل محلّه "شبح التوسع الإسرائيلي".
وحتى يكون كبح هذا التوسع ذي شرعية دولبة، لا بد من التنسيق مع أطراف دولية، ومن هذا المنطلق دعت القمّة جهات دولية، كالأمم المتحدة التي شاركت عبر أميتها العام، أنطونيو غوتيريش، ومنظلمة الاتحاد الأوروبي ومنظمة الاتحاد الأفريقي. ولم يكن هذا الحضور رمزياً إذا رحّبت هذه الأطراف بالمبادرة وأبدت رغبة مبدأية بالمشاركة في تنفيذها سواء من حيث التمويل (ستتضح الأطراف المائحة في مؤتمر الإعمار المزمع عقده الشهر القادم) أو من حيث الدعم السياسي لها.

قراءة في الخطة : واقعية ..... ولكن


تبلغ الكلفة الاجمالية الطموحة لخطة الإعمار 53 مليار دولار وبإطار زمني محدد بخمس سنوات، ووضّح الملخص التنفيذي للخطة مراحل وكلف العمل، حيث يُفترض أن يبتدأ العمل بمسار "التعافي المبكر" المحدّد ب6 أشهر وبكلفة 3 مليار دولار، على أن يُتلى بمسار "إعادة الإعمار" المكون من مرحلتين ورغم حالة الضبابية اللوجستيّة والتشغيليّة والتمويلية إلا أن الخطة تفصيلية تنفيذية معزّزة بالأرقام والخرائط وحقائق الدمار الجديدة، وتؤكد الخطة على أن الإعمار سيتم "بأيد فلسطينية" مما يقدّم إشارة إلى تبني خيار دعم الاستقرار الاجتماعي السياسي في القطاع، حيث يقود خلق فرص عمل في القطاع المنكوب إلى تحسين جودة الحياة، وهو ما يعود بالنفع على تثبيت الاستقرار الأمني.
لا تريد ورفة تقدير الموقف هذه مناقشة الأبعاد التمويلية واللوجستية لأن هذه الأبعاد يمكن التعامل تقنيا معها إن تم حلّ العقبات الأمنية والسياسية المحيطة بملف غزة. فخطة الإعمار الإنساني والسياسي والأمني تتجاوز فكرة "حماس منزوعة السلاح" وتقترب من نزع القدرات الإدارية الإشرافية لحكومة حماس وإسناد الشأن الإداري "لفترة 6 أشهر على الأقل" إلى لجنة محايدة من الخبراء التكنوقراط، وهو أمر تصر عليه المستويات الثلاث في إسرائيل: السياسية والأمنية والعسكرية.
وثمّة شكوك حول "رضوخ" حماس إلى هكذا لجنة وتسليمها بالأمر الواقع، ولكن فقه إدارة المعركة يتطلب تنازلات صعبة. وبرهنت حماس، وبموازاة صورة "النصر" الإعلامية التي تبتها. على قدرة سياسية لتقديم تنازلات تنزع فتيل الأزمة.
كما في قبولها "عبور 50 فرداً من العسكريين الجرحى يومياً برفقة ثلاثة أفراد" طيلة أيام الهدنة. مما يعني أن المرحلة الأولى الأولى التي امتدت إلى 42 يوم يُفترض أن يكون قد غادر فيها 2100 مقاتل جريح، بالإضافة إلى 6300 كمرافقين.
كما أبدت تصريحات قيادات وازنة فيها مرونة فيما يتعلق بقبول عدم تولي قيادة تسيير شؤون القطاع في اليوم التالي، لكن من الصعب افتراض قبول الحركة التي تكبّدت كلف لا يمكن تصورها طيلة 15 شهر أن يتم تحييدهم وإقصائهم، ويُستبعد أن تكون مقبولة على مختلف المستويات داخل الحركة الأنها تعني ببساطة المساس بوجودية الحركة ككيان فلسطيني.
إلا أن الحركة، وفي بادرة قبول بالخطة المصرية العربية للإعمار الشامل في غزة، رحّبت بالبيان الختامي الصادر عن القمة الطارئة، ولم تبدِ أي تحفظات "علنية" على محاوره لا بل شكرت الزعماء العرب واعتبرت أن ما جاء في البيان من ضرورة "بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية" يعبّر عن "تطلعات شعبنا في الحرية والاستقلال، عبر إجراء انتخابات تشريعية ورناسية في أسرع وقت ممكن" مما يدلل أن الحركة وافقت علناً على البند الأكثر حساسية في "اليوم التالي".
ولعل الأمر الأكثر دلالة على انخراط الحركة في المناورات السياسية ما جاء في موقع "Axios" ذي المصادر الموثوقة المطلعة من أن قيادات من حماس في الدوحة أجرت محادثات غير مسبوقة مع المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون المحتجزين، أدم بولر، من أجل تأمين الإفراج عن الأسرى الأمريكيين في القطاع، وهذه المحادثات - للدقة يمكن اعتبارها تواصل أكثر منها محادثات - كانت مباشرة وليس عبر طرف ثالث، ومن المعروف أن ثمة قاعدة في الدبلوماسية الأمريكية "لا تفاوض مع الإرهابيين".
وعليه، فإن واشنطن بمحادثاتها الإنسانية مع تيار ما من حماس فإنها تمنح هذا الطرف شرعيّة وتنزع عنه صفة الإرهاب
وبما يوازن عدم تضمن الخطة دور لحماس في تسيير شؤون القطاع في المرحلة المقبلة، فإنها لم تتصادم مع خط حماس الأحمر المتمثل في نزع سلاحها، دون أن تتبني أي دور لهذا السلاح، معتبرة أن السلاح الشرعي هو الوحيد المقبول والمعترف به.
ومن الضرورة في هذا السياق الإشارة إلى وجود تجنّح داخل حماس بين تيار متشدد يُنظر له على أنه مقرّب من طهران وآخر براغماتي مرن مقرّب من الدوحة وأنقرة، وأحياناً يمكن الاستدلال على هذا التجنّح عبر التصريحات خارج السرب أو عبر المواقف السياسية المعلنة. وحتى السابع من اكتوبر كان التبار المتشدد محتكراً للشأن الأمني بكافة تفاصيله ولم يكن بمقدور التيار المرن التحكم في تفاصيل الإدارة الحيوية للقطاع.
بهذا الاتجاه تكون لجنة الخبراء التي تتولى إدارة القطاع أمام مأزق أمني، فهي قد تُواجه من قبل تيار فصائلي رافض لمثل هكذا يوم تالي يتنكر لآلاف الضحايا من المقاتلين ولا يعترف بشرعية دور "المقاومة". مما يضع أعمال اللجنة أمام سيناربو التعطيل ما لم تحظى باسناد أمني تقني.
ولم تغفل الخطة العربية عن هذا الإشكال، فهي تتضمن تدريب عناصر أمن لغزة، حيث جاء فيها ما نصه "تعمل مصر والأردن على تدريب عناصر الشرطة الفلسطينية تمهيدا لنشرها في القطاع" دون أن توضح علاقة الجهاز الأمني القائم في السلطة الوطنية بالقوة المستحدثة الجاري تدريبها.
وفي الواقع فإن السلطة الوطنيّة تواجه هي الأخرى أزمة حكم لا بل أزمة شرعية حتى، فرغم أنها الموكلة قانوناً بإدارة الضفة وغزة إلا أن خطة الإعمار أسندت إدارة القطاع لفترة 6 أشهر - لم يحدد ما إذا كانت فقط 6 أشهر أم سيتم تمديد تفويض الإدارة - إلى لجنة خبراء. كما أن بعض المناصب القيادية في منظمة التحرير وفي الجهاز الأمني خضعت مؤخراً لتغييرات، وهذه التغييرات الأمنية والسياسية ذات صلة بالتنافس على ترتيبات اليوم التالي لمرحلة أبو مازن.
وتضمن البيان الختامي، بالإضافة إلى خطابات الوفود، خطوات عملية ذات صلة بإصلاح السلطة، واستجاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه إلى ما يُقال عن استياء إقليمي ودولي من واقع السلطة عبر دعوته إلى انتخابات تشريعية ورئاسي مجديدة - لم يُحدد الآليات وموقع غزة في هذه الانتخابات - بالإضافة إلى تعيين نائب رئيس جديد، والأهم من ذلك العفو عن المفصولين من حركة فتح، حيث يقيم بعض متهم في عواصم خليجية ويرتبطون بعلاقات فيها مع جهات سيادية، مما يعني أن هذا العفو قد يعني إفساح الطريق أمام عودة سياسية شرعية لهؤلاء المفصولين لممارسة أدوار قيادية بدعم من بعض الدول التي يقيموا فيها.
من هنا قد يعني "إصلاح السلطة" تولي شخصيات جديدة مناصب رئاسية في هيكل السياسة والأمن، وقد يتم توسيع ترتيبات غزة الجديدة - هذا طبعاً إن رأت النور - لتشمل الضفة التي تعاني أيضاً على مختلف الصعد والمستويات، حيث تمتلك الخطة الإرادة السياسية لتطويق مصادر تمويل حماس وعدم استغلال أي طرف للمساعدات والمشاريع التنموية المستقبلية لزيادة رصيده الشعبي، من هنا قد يجد القاطنين في غزة بديل عملي في حكم مدني يوفر لهم متطلبات الحياة الكريمة وفي الوقت نفسه يكون هذا الحكم غير منبئق من سلطة الاحتلال.

عر اقيل التنفيذ: الشيطان يكمن في التفاصيل

استعرض البند السايق بعض العقبات السياسية أمام تنفيذ الخطة المصرية المدعومة عربياً، ونظراً لسيولة الأحداث والمواقف وما يضمره كل طرف ذي علاقة بقضية غزة من مخاوف وأهداف، فإن القراءة الموضوعية الواقعية تشير إلى عقبات رئيسية يمكن إيجازها بما يلي:

1-الرفض الإسرائيلي: تنظر الحكومة الإسرائيلية مدعومة بتيار قومي ديني متشدد إلى القطاع على أنه "صندوق باندورا" انطلقت منه شرور السابع من أكتوبر، وهي مسكونة بسعي محموم للتهجير و عرقلة فرص الحياة الطبيعية لقاطني غزة، لا بل وفي ظل "فائض القوة" الإقليمي الذي يسيطر على تصوراتها ومنطلقاتها تطمح حكومة "الحسم" الإسرائيلية إلى تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في أرض الميعاد مستعينة بإدارة أمريكية تضم عناصر يُصنفوا على أنهم من مؤيدي المسيحية الصهيونية الإنجيليية
من هنا، ودون ضغط دولي على الحكومة الإسرائيلية فإن معابر تنفيذ خطة إعادة الإعمار تضل موصدة، خصوصاً أن مثل هكذا ورشة كبرى للتنمية في غزة ستثير عاصفة من الرفض المجتمعي في إسرائيل بطريقة قد تطيح بتأييد الكنيست للحكومة. وبمراعاة أن الانتخابات التشريعية القادمة - إن لم تجر انتخابات مبكّرة- ستعقد في أكتوبر 2026، فإن الليكود لن يغامر باستنزاف رصيده الشعبي في قبول صفقة تخل بمستقبل الأمن.
ومن الضرورة بمكان مراقبة ما إذا كانت تل أبيب ستفتح باب التهجير "الطوعي" عبر منافذ خاصة من خلال ميناء أسدود أو مطار رامون. وفق ترتيبات مع دول مستضيفة.

2- مفاجآت التعاطي الأمريكي: تطرّقت الورقة في البند السابق إلى تواصل مباشر بين المبعوث الرئاسي الأميركي لشؤون المحتجزين ومسؤولين في الحركة، ولم يمر على هذا التسريب عبر موقع "Axios" الذي يمبل لتأييد رواية الديمقراطيين بضعة ساعات حتى نشر ترامب تدوينة صادمة يهدد فيها حماس بضرورة الإفراج عن كل المعتقلين الأحياء والقتلى وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة ليس فقط على أفراد الحركة بل على القطاع برمته.
وهذا التردد والتذبذب الأمريكي ليس عشوائياً بل هو محسوب للضغط على مختلف الاطراف ولتحقيق وضع تفاوضي يفضي إلى نتائج مقبولة أمريكياً. ويمكن رصد عدة مواقف متبدّلة متناقضة صدرت عن ترامب حيال غزة، فهو حدّد موعد سابق لإطلاق سراح كل الأسرى أو "الجحيم" لكنه عاد وتراجع عنه، كما صرّح بأن أمريكا ستأخذ غزة ليعود ويوضّح أن ما قصده هو الإشراف على إدارتها تنموياً عبر شركات بعد تهجير أهلها. وحتى هذا الملف تارة يقول بأن سكان غزة لا يحق لهم العودة وتارةً يقول أن بعضهم يمكنهم العودة.
وأيضاً بعد لقائه الملك عبدالله الثاني خفّف ترامب من حدة نبرته التهجيرية وأعلن صراحةً أنه لم يتوقع رفض أردني مصري لخططه فيما يبدو اعتراف بوجود عائق أمام الترانسفير.
كل هذه المعطيات تدل أن رؤية الإدارة الامريكية حيال غزة في طور البناء وعرضة لتبدّلات المواقف، ويمكن إفتراض أن هذه الرؤية لا تستشعر الدولة العميقة بأنها جادة وقابلة للتنفيذ
والأهم من ذلك أن الملف الفلسطيني برمّته لا يحتل أولويّة في اعتبارات الأمن القومي الأمريكي ولا في نقييم إدارة ترامب للمصالح الحيوية العليا، فالعقل الاستراتيجي الأمريكي منشغل بترتيبات الأمن في أوروبا المتصلة بالأزمة الأوكرانية وإعادة ضبط العلاقة مع موسكو، بالإضافة إلى حرب الرسوم الجمركية المندلعة مع الخصوم التجاريين -كالصين- والحلفاء الاستراتيجيين ككندا. وحتى التفاعلات عبر الأطلسي هي عرضة لإعادة تقييم وسط توجّس دول الاتحاد المركزية من موثوقية الاعتماد على المظلة الأمنية الأمريكية.
كل هذه الملفات تزاحم تنفيذ رؤية أمريكية تجاه غزة، سواء أكانت للضغط على حكومة نتنياهو لعدم عرقلة الخطة العربية أو لتنفيذ "ريفيرا غزة"، وهذه الأخيرة قد تكون مجرّد مقترح معدّ لكي يتم رفضه على أن يُقبل ما هو دونه من خطط، كصفقة القرن. أو حتى قد تنوي واشنطن ومعها تل أبيب إدارة هذا الجمود الذي توظفه أدوات السياسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية لمزيد من السيطرة والتحكم على الديمغرافيا والأرض في غزة والضفة وعلى امتداد المحيط الإسرائيلي الأخذ بالتشكل في سوربا
3- انهيار الهدنة: لن يكون لأي خطة حيال غزة قيمة إذا انهارت المفاوضات، ووسط تمسك الحركة باتفاق المبادئ على هدنة ثلاثية المراحل تقود إلى انسحاب اسرائيلي ووقف شامل لإطلاق النار من جهة، وتعنّت إسرائيل في تفسير هذا الاتفاق من جهة أخرى؛ تترقّب الأوساط ذات العلاقة زيارة المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، في الاسبوع الثاني من هذا الشهر، آذار، في محاولة لمنع انهيار الهدنة الهشة أصلاً.
4- تهور إسرائيل في عملياتها في الضفة: دون وجود مبرر أمني جدّي، تنهمك القوات الإسرائيلية في عملية "السور الحديدي" في شمال الضفة الغربية مخلخلة بذلك استمرارية السلطة في تأدية أعمالها المتقلصة منذ السابع من أكتوبر. ويطمح الاحتلال من عمليته هذه إلى فصل تواصل أراضي الضفة، وإلى تلبية الرغبات السياسية للمتشددين الساعين إلى استعادة القتال في غزة.
وتعيد تسمية "السور الحديدي" إلى الأذهان عملية الدرع الواقي عام 2002 وما أحدثته من تغييرات مستدامة في الضفة الغربية. ويقود تفجير الأوضاع في الضفة وربما لاحقاً القدس إلى عرقلة بلورة الظروف الفلسطينية الحاضنة لخطة إعمار غزة.
5-الانقسام الفلسطيني: أعاد السابع من أكتوبر بشدة طرح مسألة الانقسام الفلسطيني لأنه كشف عن عمق الخلاف الاستراتيجي في القيم والرؤى حيال مختلف الأبعاد، فالانتسام أصبح يتجاوز مسألة سلطة تتولى الضفة وحكومة تدير غزة، إذ أصبح وجود السلطة الحالي مثار شكوك، فبين مطالبات إقليمية وأمريكية بإصلاحها جذرياً وسعي إسرائيلي لتقويضها تماماً، قد يكون ثمة ضرورة ملحة للتفكير في صيغة مبتكرة ل"المصالحة الفلسطينية" لأن الفريقين الرئيسين - حماس والسلطة- يجري إعادة نشكيلهما، والأمر نسبي بالطبع.
6-تراجع الإجماع العربي: يفتقر الإجماع العربي لتنفيذ الخطة إلى التوافق حول مصادر التهديد الرئيسية لمختلف الدول ذات العلاقة، فبعض الدول العربية لن تتسامح مع بقاء أي دور لحماس في غزة حتى لو كان إدارياً غير أمني أو عسكري، كما أن الدول العربية تتباين في طبيعة العلاقة مع
إسرائيل، والأمر يتجاوز كون بعض الدول أقامت علاقات دبلوماسية مع تل أبيب في حين لم تقم البعض الآخر مثل هكذا علاقات، إلى وجود تباين في الموقف من الدور الإسرائيلي الإقليمي، فمثلاً تعبّر عقود شراء الأسلحة من شركات إسرائيلية عن مستوى سياسي من الإدراك بضرورة إدماج اسرائيل أكثر في الترتيبات الأمنية والجيوسياسية في الشرق الأوسط. وهذا التباين الواسع - ولا تريد الورقة استخدام مفردة التعارض - في اعتبارات ومصالح وتصورات الدول العربية الرئيسية قد يحول دون وجود رافعة سياسية قوية لتنفيذ مخرجات وقرارات القمة الطارئة
7-نشر قوات حفظ سلام دولية: خاطبت الخطة المصرية مجلس الأمن ب" إصدار قرار لنشر قوات حماية/حفظ سلام دولية، مع العمل على وضع جدول زمني لإقامة الدولة الفلسطينيية"، ولم توضّح الخطة نطاق عمل هذه القوة من حيث التفويض أو الانتشار الجغرافي، وحتى صياغة "حماية/حفظ سلام" تبدو مستجدة، فمبدأ الحماية الدولية يختلف عن مبدأ حفظ السلام، وفق القانون الدولي والوثائق الأممية ذات الصلة
وقد تتحول هذه القوات لتكون عائق سياسي أمام خطة الإعمار، هذا بالطبع إن وافقت السلطات الإسرائيلية على انتشار قوات دولية تراقب وترصد -وربما تمنع- عملياتها.
وبالنظر إلى الرفض الشعبي المحتمل في الضفة والقطاع على عزل حماس، فإن هذه القوات قد تجد نفسها في صدام "مدني" مع تيارات فلسطينية أو حتى صدام عسكري مع خلايا فلسطينية مسلحة وليس مستبعداً أيضاً وقوع حالات من الاشتباك بين ميليشيات مستوطنين وهذه القوات الدولية
وإن كانت الخطة ترتكز أمنياً على نشر قوات "حماية/ حفظ سلام"، فإن تعثر عمل هذه القوات سيزعزع مسار الإعمار العربي في غزة.
الخاتمة: مراكمة الزخم
جاءت القمم العربية السابقة لتؤكد على صياغة مألوفة من دعم الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من حزبران وعاصمتها القدس الشرقية، أما قمة القاهرة فانشغلت بملف توفير حائط صد عربي يبدو مشتركاً في وجه مخطط التهجير الذي يستهدف غزة والضفة الغربية، وهذا التحول من التأكيد على إقامة الدولة الفلسطينية نحو عرقلة التهجير يقدّم دلالة واضحة على حجم المأزق الاستراتيجي متعدّد الأبعاد الذي تواجهه القضية الفلسطينية، فحتى الحديث عن إقامة دولة فلسطينية يبدو ترفاً في ظل معاناة قرابة مليوني إنسان في غزة من ظروف تعرقل استمرارية حياتهم المادية
وهذا "الشفت" من الشقّ السياسي المتعلق بإقامة دولة فلسطينية إلى الشق الإنساني الإداري المعني بإعمار غزة وتحسين الواقع في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية يعيدنا إلى المربع الأساس الأول:
غياب خطة معيارية تمثل الأساس لمفاوضات أو سلسلة من الإجراءات تفضي إلى قيام حل جذري دائم بما ينهي الاحتلال ويسكن المخاوف الإسرائيلية الأمنية غير المبررة قانونياً وعملياً، فعلم فض النزاعات الدولية يبحث في جدوى وعلاقة أي امسار أو إجراءات معينة مع الهدف الاستراتيجي المتوفر ببلورة حل تفاوضي ينهي القضية المتنازع عليها.
من هنا تمخّضت القمة العربية الطارئة عن خطة عربية توفر بديل إنساني مقبول سياسياً يضادد الترانسفير الغزّي، ولكنها - أي القمة العربية - لم تقترب من طرح مقاربات يمكن لها أن تشكل الأساس لحل جذري وعادل لا يطيح بحقوق الشعب الفلسطيني كخطة ترامب للسلام المعروفة إعلامياً ب"صفقة القرن" . كل الأحوال هذه القمة وما تضمّنته من خطة تنفيذية إجرائية يجب أن تترافق مع تسويق سياسي عالي المستوى لمضامينها، فمن الضروري تشكيل خلية متابعة عربية تتولى شرح ونقل رؤية الخطة إلى العواصم المؤثرة، كواشنطن ومقار السياسة الخارجية الأوروبية وموسكو والصين، وأيضاً يمكن لمنظمة التعاون الإسلامي تبني ودعم مضامين القمة العربية. فمن شأن إعطاء الزخم للمبادرة العربية لإسناد غزة أن يفوت الفرصة على اليمين التلمودي الإسرائيلي في تسويق "ريغيرا غزة" وكسر احتكار رواية الحل الأمريكي لغزة.
ويختم تقدير الموقف في التوصية بضرورة عدم اختزال الدعم العربي للشعب الفلسطيني في مسألة "الخطة المصرية" وإغاثة غزة، وإنما يتعين في هذا التوفيت الحرج التعاطي بشمولية مع الملف الفلسطيني والتحوط الاستباقي لعدم تقويض بعض منصات ديمومة دعم الحق الفلسطيني.
وفي هذا الصدد يمكن العمل على إنقاذ الأونروا ليس فقط مالياً بل أيضاً سياسياً، لأن السردية الإسرائيلية تتهمها بأنها حاضئة ل"الإرهاب الفلسطيني". كما يمكن تفعيل الحراك عبر لجنة الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني واستباق تحرك لإجهاضها لأنها الشاهد القانوني على "الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني".
حيث ينبغي منج الخطة المصرية زخم دبلوماسي مشترك يجعل منها نسخة مطورة من المبادرة العربية للسلام بحيث يتم رهن المستوى الحالي من العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب، بالإضافة إلى أي علاقات جديدة معها، بالتنفيذ حسن النوايا الموثوق لخطة الإعمار في غزة، ولجم الاستيطان في الضفة والقدس، ووقف الخنق المالي والسياسي والأمني المعرفل لحرية عمل السلطة الوطنية، وعدم تخريب طموح إصلاحها وتوسيع نطاق عملها صوب كامل الضفة الغربية وغزة.

أخبار متعلقة