السردية الثقافية للحرب الإسرائيلية الإيرانية - من ثقافة الخوف إلى ثقافة التضحية

تعبيرية
تعبيرية
الدار -أعد مدير البرنامج الثقافي والإعلامي  في مركز الخليج للأبحاث د. زيد بن عل الفضيل  سردية ثقافية حول الحرب "الإسرائيلية" – الإيرانية والتي استمرت نحو 12 يوما قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
و يبقى أخطر ما في هذه الحرب، حسب توصيف د. زيد بن علّ الفضيل، ليس تبادل الصواريخ أو الغارات، بل في تحول الصراع إلى صراع ثقافي ديني شمولي، تغيب فيه السياسة، ويتقدم فيه الدين كسلاح لا يعرف التفاوض، مما يُنذر بصراع لا منتصر فيه، بل الجميع فيه خاسر.
وجاء في الدراسة التي حصل موقع "الدار الإخباري على نسخة منها:
(1) البعد الديني للصراع السياسي:
لا أجد غضاضة حين يتحدث إسرائيلي عن أرض فلسطين المحتلة بروح دينية باعتبارها أرضا يهودية، وأنها حَصرا لهم، إذ يندرج ذلك في تأصيل المشروعية الدينية لوجودهم على أرض فلسطين المحتلة من وجهة نظرهم، وبخاصة وأن دولتهم "إسرائيل" قد قامت على مزاعم دينية عنصرية بدعم غربي سياسي. 
لكني أستغرب كثيرا من ذلك الخطاب الغربي المنطلق من روح دينية، والذي بات ظاهرا في سياقات عديد من السياسيين في الولايات المتحدة بوجه عام، على أنه وإن كان مقبولا ظهور ذلك في إطاره العام ومن شخصيات غير مسؤولة، لكن أن يتبنى مضمونه ودلالته عدد من كبار المسؤولين في الولايات المتحدة تحديدا، فذلك أمر خطير، ومنزلق صوب تغيير مسار الصراع في المنطقة من حالته السياسية التي تقبل الأخذ والرد، إلى حالته الأيدولوجية البحتة التي لا ترضى إلا بالخضوع، وتركن إلى استخدام القوة المفرطة في سبيل تحقيق أهدافها. 
في هذا السياق جاء استشعاري الخوف من رسالة السفير الأمريكي في "إسرائيل" مايك هاكابي التي وجهها للرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالتزامن مع تصاعد وتيرة الحرب بين إسرائيل وإيران، إذ جعلتني أتصور بأننا أمام مشهد ديني بحت يعود بأحداثه إلى القرون الوسطى حين كان الخطاب الديني هو المحرك الرئيسي للسياسات الدولية في وقته، وكان أن أنتج ذلك الخطاب عديدا من الحروب المستعرة بروح دينية متطرفة، ولعل أحد شواخصها ما عرف بالحروب الصليبية. 
في خطاب السفير الأمريكي تحريض مباشر للرئيس ترمب لأن يدخل الحرب وفق رؤية دينية، وليس لأسباب سياسية أو عسكرية ناتجة عن اعتداء إيران على الولايات المتحدة ذاتها، أو أنها قد وجهت ضربة لقواعدها العسكرية في المنطقة. 
هذا التحريض الديني الذي ورد في خطابه يعكس طبيعة وشكل البنية الثقافية المحركة للمشهد، وهو أمر خطير لكونه محكوم بقناعات أيدولوجية لا تتبدل أو تتغير، وليس وفق مصالح سياسية أو اقتصادية يمكن أن تتغير بحسب السياق المصلحي. 
وبنظرة تفكيكية لخطاب السفير الأمريكي مايك هاكابي الذي وطوال مسيرته المهنية حافظ على موقف قوي مؤيد "لإسرائيل" (وفق تعريفه في الموقع الرسمي للسفارة الأمريكية في إسرائيل)، انطلاقا من معتقداته المسيحية الإنجيلية، والتي ترتكز على دعم السيطرة "الإسرائيلية" على أرض فلسطين المحتلة باعتبارها وطنا أصليا لهم؛ يظهر للمتابع وجه الشبه بين مدلول خطابه وتوافقه مع مضمون مختلف الخطابات المتطرفة التي ينطلق منها أتباع "القاعدة" و"داعش" في الشق الإسلامي، والذين لا يختلفون في مدلول خطاباتهم عن السياق الذي جاء فيه خطاب السفير هاكابي حيث يقول: 
"سيدي الرئيس، لقد نجاك الله في بتلر، بنسلفانيا، لتكون الرئيس الأكثر تأثيرًا في قرن، وربما على الإطلاق... يا سيدي، هناك أصواتٌ كثيرة تُخاطبك، لكن صوتًا واحدًا فقط هو المهم: صوته (يقصد نداء الله له بأن يدخل الحرب)... لا أتواصل معكم لإقناعكم، بل لتشجيعكم فقط. أؤمن أنكم ستسمعون من السماء، وهذا الصوت أهم بكثير من صوتي أو صوت أي شخص آخر..."
في المقابل يأتي تصريح السيناتور الأمريكي تيد كروز موافقا لذات الذهنية التي ترتكز على ثقافة دينية أيدولوجية، حيث قال خلال حديث تلفزيوني مع الإعلامي تاكر كارلسون: "تعلمت في مدرسة الأحد أن من يُبارِك إسرائيل يُبارَك، ومن يَلعن إسرائيل يُلعن". 
لقد بات هذا النفَس الثقافي واضحا في ثنايا المشهد القائم، وأصبح مُحركا لدوافعه، بل وأداة رئيسية فيه، ويعود ابتداؤه لغزو العراق عام 2003م حين صرح الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش بأنه يخوض حربا صليبية، وكان مؤداه أن دخل العراق في وَعكة صحية شديدة لم يتعاف منها بشكل تام حتى الآن. 
كما أنه كان سببا رئيسا لظهور خطاب ديماغوجي آخر، متمترسا بخطاب ديني تبنته كتائب "القاعدة" ومن ثم "داعش" اللتان أعلنتا الجهاد في سبيل الله، وفتح معركة دينية مع الآخر الكافر، وهو ما انعكس سلبا على وتيرة الأحداث في الإقليم، وعزز من روح الحركات الإرهابية التي وَجدت في السياق الغربي الثقافي المحكوم برؤية دينية متطرفة، حجة لزيادة وتيرة أعمال العنف في الإقليم بأكمله انطلاقا من فهم ديني خاطئ. 

(2) محور الشر والشيطان الأكبر:   
أمام هذا التوافق في المنطلقات الثقافية للصراع السياسي بين إسرائيل والمنظومة العربية والإسلامية برز توصيفان رئيسان تم تسويقهما بشكل رسمي في الجانبين، وهما "محور الشر" في ثنايا الخطاب الأمريكي والغربي عموما، ووصف "الشيطان الأكبر" الذي أطلقه آية الله الخميني على الولايات المتحدة الأمريكية، وحاول رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي نتنياهو مؤخرا الاستفادة منه لتهييج الولايات المتحدة ضد إيران بقوله في أحد خطاباته موجها حديثه للرئيس ترمب قائلا: إذا كنتم الشيطان الأكبر في الذهن الإيراني، فإسرائيل هي الشيطان الأصغر. وكأنه يريد أن يصنع تماثلا بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" في ذات المظلومية والسياق العدائي. 
الغريب أن هذا السياق أخذ يتكرس في ذهن عدد من السياسيين الأمريكيين باعتباره حقا مطلقا، إذ ورد على لسان النائب الجمهوري راندي فاين قوله: بأن في ثقافة الفلسطينيين الإسلامية شيء خاطئ جدا يجب اجتثاثه، مؤكدا بأن الولايات المتحدة لم تساوم مع الشر في الحـرب العالمية الثانية، وأنها قد هزمت الألمان واليابانيين، وقصفت هيروشيما بالنووي، مشيرا بجدية إلى أن الفلسطينيين في غـزة على مستوى من الشر الذي رأه في اليابان، وعبَّر عن اعتقاده بأن تقوم "إسـرائيل" بفعل اللازم للتغلب على هذا الشر.
في المقابل فقد حفَّز هذا السياق الثقافي سياقا ثقافيا آخر معاكسا في الاتجاه ومساو في القوة، تبناه مجمل التيار الإسلاموي سواء كان شيعيا أو سنيا، والمهم على الصعيد العربي والإسلامي أنه ظل محصورا في سياقات دينية وليس سياسية، باستثناء جمهورية إيران الإسلامية، التي تأسست وفق نظرية دينية، وقامت وفق معطيات مذهبية بحتة؛ ومع ذلك فقد ظل خطابها محدودا لولا تنامي سياق البعد الثقافي الديني في الذهن الغربي على الصعيد السياسي، وتخلي الغرب عموما عن مرتكزات ثقافته الديموقراطية العادلة حين يتعلق الأمر بالصراع العربي "الإسرائيلي"، حيث بات واضحا مدى تعصبهم المقيت "لإسرائيل" إلى الدرجة التي يقلبون فيها الحق باطلا، كما هو الحال في تصريح بعض الدول الغربية الكبرى حاليا بأنها تقف مع "إسرائيل" في حربها ضد إيران، وبأن من حق "إسرائيل" الدفاع عن نفسها، غافلين عن أنها هي مَن ابتدأت الحرب واغتالت كبار قيادات إيران مؤخرا. 
(3) ثقافة الحياة والموت:
كل ذلك قد عزز من صورة الغرب الشيطاني في نظر الإسلامويين جملة، وجعل العامة في مختلف الدول العربية والإسلامية تقبل ذلك الوصف بشكل عام، وبالتالي فيمكن أن يؤدي ذلك إلى أن يخرج الصراع من حالته السياسية إلى حالة ثقافية أخرى قوامها الروح الدينية، وهو أخطر ما يمكن أن يواجهه العالم جملة، باعتبار محركه الغيبي المحفز على الشهادة في الثقافة الدينية الإسلامية، ومثله في مختلف الثقافات الدينية الأخرى. 
أمام ذلك تبرز المقولات التاريخية التي وضحت في سياق الخطاب الجماهيري الشيعي الإثنا عشري على لسان أمين عام حزب الله الأسبق السيد حسن نصر الله، والذي كان يُلهب الجماهير بخطاباته التحفيزية، ولاسيما حين يصل إلى تكرار مقولة: "هيهات منا الذلة"، ومقولة: "إن الموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة"، ناهيك عن صرخات التكبير المدوية في الجانب السني، وهو ما شكل ملمحا ثقافيا في السمات الحيوية للمجتمع، لتصبح هاتان المقولتان رمزا شعائريا في إطار السردية الشعبية، وضمن ثنايا فكر بعض المتداولين لحقل السياسية ممن ينتمون للتوجه الإسلاموي، والذين باتوا صوتا مؤثرا في الساحة العربية بوجه خاص، جراء حالة الصلف والاعتداء السافر من قبل حكومة اليمين "الإسرائيلية" المتطرفة على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وتبني القيادات الإسرائيلية مفاهيم دينية يهودية متطرفة تدعو إلى قتل الآخر، واستباحة دمه، حال إبادتهم للمجتمع المدني في غزة.
على أن الأسوأ أن يتم مواجهة هذا الصلف والاستبداد اليهودي بموقف داعم من قبل الحكومات الغربية التي لم تتخذ أي موقف مناهض لكل أعمال الإبادة الجارية، وهو ما أجَّجَ الشارع العربي والإسلامي، وزاد من قوة ونفوذ الخطاب الثقافي الديني، مما يمثل مؤشرا سلبيا في نهاية المطاف، فحين تُدار السياسة ومفاصل الصراع بثقافة دينية، فلن يكون هناك أي مخارج مقبولة، فإما حياةٌ وإما ممات.     
(4) الصراع بين ثقافة الخوف والتضحية:
أشير إلى حالة الاختلاف في الفهم الثقافي لمفهوم الحياة والموت في الذهن الديني الإسلامي عنه في الذهن الديني اليهودي، فدلالة "هيهات من الذلة" و"الموت لنا عادة" وكرامتنا من الله الشهادة" تعكس مفهوما حياتيا آخر، قوامه أن الدنيا دار مرور وسمتها الفناء إن آجلا أم عاجلا، وأن الآخرة دار مستقر وسمتها الخلود، وهو ما يتكرس في الذهن الإسلامي بوجه عام، ويتمسك بتلابيبه المجاهدون، ولذلك نراهم مستبسلين في قتالهم، مندفعين في معاركهم، لا يأبهون شيئا أو يخافون من شيء. 
كما أن ذلك متعزز أكثر في الذهن الثقافي الشيعي من خلال نموذج استشهاد الحسين بن علي (رضي الله عنهما) والذي يُقيم له الشيعة طوال 14 قرن مراسم عزاءً ابتداء من غرة شهر محرم وحتى العاشر منه فيما يعرف بعاشوراء، وفيه يتم استذكار قصة كربلاء والمجزرة العنيفة التي تعرض لها الحسين وأهله، وهو ما يُلهب القلوب ويزيد من حالة الاستبسال. 
هذه الصورة جعلت مفهوم سكب الدماء استبسالا حاضرة في الذهن الثقافي الشيعي على وجه الخصوص، وبالتالي يمكن فهم رفع راية الحسين الحمراء على المنابر والقباب حال بدء اعتداء إسرائيل على إيران واندلاع الحرب الإيرانية "الإسرائيلية"، مع الإشارة إلى أن توقيت الصراع القائم يأتي قريبا من ذكرى عاشوراء وابتداء المحرم، الأمر الذي تلتهب النفوس المقاتلة معه في الصفوف الإيرانية للحاق بركب موكب الحسين وفق ما تُرسِّخه السردية الشيعية عموما.    
في هذا السياق أجد من المهم الرجوع إلى كتاب "إيران من الداخل" للصحافي والكاتب الإسلامي المصري فهمي هويدي، الذي سرد فيه ملاحظاته حول إيران ومجتمعها وطبيعة ثقافتها خلال عقد الثمانينات، حيث تسنى له زيارتها مرات عدة بالتوافق مع حالة الحرب العراقية الإيرانية، وهو كتاب عميق في دلالته ومضمونه، إذ من خلال توصيفه يمكن فهم الذهن الثقافي الإيراني الشيعي أكثر، وإدراك عمق مدلول الدماء في ذاكرتهم التي لا أظنها قد خفتت اليوم، على الرغم من تسيُّد فئة الشباب الذين يُمثلون الجيل الثالث للثورة، والمنغمس كثيرٌ منهم في مفاهيم الحداثة المعاصرة، لكنها الحرب الخارجية التي يمكن أن تُوحد المجتمع الإيراني بكل أطيافه المتنوعة.   
ذلك على الصعيد الإسلامي، والشيعي الإيراني بخاصة، أما على الصعيد اليهودي فأتصور أن الأمر مختلف كليا، إذ تقوم الثقافة الدينية اليهودية على حب الحياة، ولذلك يمكن إدراك حرصهم على العيش أكثر من غيرهم، وتظهر رغبتهم في الاستمتاع بتفاصيل الحياة ولكن بصورة أنانية، فالكون خُلق من أجلهم، والناس وُجدوا لخدمتهم، وفق ما تُرسخه النصوص التوراتية، وهو ما جعلهم يعيشون في مستوطنات معزولة عن الآخر حال شتاتهم، كما هو الحال في اليمن والمغرب وعديد من الدول العربية والأوروبية، ثم جعلهم يستكبرون على غيرهم حين ظهور دولتهم وبروز قوتهم، كما يحدث حاليا في حربهم غير الإنسانية ضد المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة وصولا إلى الضفة الغربية. 
هذا السلوك الحياتي زرع في قلوبهم الخوف والرعب من المواجهة، لذلك يتخندقون خلف جُدُر مُحصنة، ويُفرطون في استخدام القوة حتى لا ينجوا أحد من خصومهم، وحين يَجِدُّ الجَدْ تراهم وقد تملكهم الذعر وأصيبوا بنوبات هلعٍ غير طبيعية، فلا يستطيعون الوصول إلى الملاجئ بهدوء أعصاب، ولا يستكينون في ملاجئهم وهم آمنون مطمئنون بما هو مكتوب عليهم، وكل ذلك سيكون له انعكاسه السلبي في حال استمرار وتيرة الخوف التي يمكن أن تؤدي إلى الاستسلام في نهاية المطاف، ولهذا هم حريصون على تكثيف الدعم الغربي لمساندتهم والدفع عنهم وقت اشتداد الأزمة والحرب.
(5) يوم النعيم أو يوم القيامة:     
أخير تُظهر السردية السالفة بأننا أمام يومين لا ثالث لهما في الوقت الراهن، فإما نعيمٌ ترفل فيه المنطقة والإقليم، بل والعالم في سلام واطمئنان، وذلك بتبني المبادرة العربية للسلام العادل، والبدء بإقرار حل الدولتين وفق الظروف المتاحة، والعيش عربيا وإسرائيليا بسلام وازدهار؛ وإما جحيمٌ يُدخلنا في هول يوم القيامة، حين تستمر "إسرائيل" في استخدام قوتها المفرطة، وعدم التزامها بالقوانين الدولية، وإصرارها على إبادة شعب بأكمله دون رحمة وبحجج واهية، وممارستها لسياسة القوة والاحتلال لكثير من الأراضي العربية تصورا منها بأن ذلك يُحقق لها الحماية والأمان، وما أدركت أن ذلك متحقق بالسلم الأهلي الذي هو متاح لو نفضت عن كاهلها حكومة اليمين المتطرفة، ومدت يدها للسلام العادل. وما يحدث من دمار حاليا في مدن إسرائيل جراء تساقط الصواريخ الإيرانية، وفشل قبتها الحديدية عن صد عديد منها، يؤكد الحاجة الماسة إلى تغليب ثقافة السلم على ثقافة الحرب، والبناء على المعطيات السياسية حال الصراع، وليس المفاهيم الدينية، التي يفصل فيها الله رب كل العالمين في وقته وحينه

أخبار متعلقة