وينتشر اللاجئون الفلسطينيون في مختلف المحافظات السورية، مع تمركز كبير في دمشق وريفها. وعلى الرغم من وجود عدد من المخيمات والتجمعات الفلسطينية موزَعين على امتداد البلد، فإن أعداداً كبيرة من الفلسطينيين تقيم داخل المدن السورية، فنحو 28% فقط من الفلسطينيين يسكنون المخيمات، بينما يتوزع الباقون ويتداخلون في التجمعات المدنية السورية، ويُعد هذا النمط من التوزع أحد مؤشرات الاندماج الاجتماعي والاقتصادي في مجتمع اللجوء.[2] وقد منح القانون رقم 260 لسنة 1956 الفلسطينيين معظم الحقوق المدنية، باستثناء الترشح والانتخاب، وهو ما أتاح لهم العمل في مؤسسات الدولة بمناصب رفيعة.
وفي هذا الإطار، تسعى هذه الورقة لدراسة مستقبل الوجود الفلسطيني في سورية في ظل التغيرات السياسية الجديدة.
1. الوضع القانوني والإداري للاجئين الفلسطينيين في سورية
تُدير شؤون اللاجئين الفلسطينيين في سورية هيئتان رئيسيتان: الأولى تمثل الدولة المضيفة، أي الحكومة السورية، وهي الهيئة العامة للّاجئين الفلسطينيين العرب، والتي تُعد جهة تنظيمية وإدارية. أمّا الثانية، فهي الأونروا، وهي جهة إغاثية.
وكما أشرنا، فإن اللاجئين الفلسطينيين توافدوا إلى سورية على مراحل متعددة، وبهذا، يمكن تقسيم اللاجئين الفلسطينيين بحسب وضعهم القانوني في الجدول رقم 1:
2. اللاجئون الفلسطينيون والحرب في سورية
مع اندلاع الحرب في سورية، تكبد الفلسطينيون خسائر جسيمة جرّاء القصف المدفعي الذي دمر العديد من المخيمات. ورافق هذا الدمار نزوح داخلي لقرابة 40% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، بالإضافة إلى نزوح خارجي لأكثر من 20% منهم.[3] كما تم توثيق حالات اعتقال لنحو 1800 لاجئ فلسطيني، وسقط أكثر من 3000 ضحية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قضى 192 لاجئاً فلسطينياً ولاجئة جرّاء نقص التغذية والرعاية الطبية بسبب الحصار، وكان معظمهم في مخيم اليرموك. يشير الجدول رقم 2 إلى توزُع اللاجئين قبل الحرب في سورية وبعدها، إذ يعيش الفلسطينيون في مخيمات مكتظة بالسكان، كمخيم اليرموك، الذي كان يُعد من أكبر المخيمات الفلسطينية في سورية. ومع تصاعُد الحرب، أصبح المخيم هدفاً للقصف العنيف والمعارك المستمرة، وهو ما أسفر عن تدمير معظم المنازل والمنشآت فيه، الأمر الذي دفع الآلاف من سكانه إلى النزوح إلى مناطق أُخرى.
وبصورة عامة، تعرضت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سورية لعدة نكبات متباينة، أثرت في مسارات النزوح وحياة السكان؛ فمخيم درعا غادره سكانه نهائياً بعد تعرضه لقصف عنيف، أمّا مخيم سبينة قرب دمشق، فقد تبادلت قوات النظام والمعارضة السيطرة عليه، وبقي لأعوام مغلقاً أمام الدخول لكونه يقع في منطقة عسكرية محظورة من جانب النظام. وفي مخيم الرمل (اللاذقية)، شهدت المنطقة اشتباكات عنيفة ألحقت به أضراراً جسيمة، وكذلك الحال في مخيم خان الشيح وحمص، إذ غادرهما معظم سكانهما بسبب وقوعهما في منطقة ساخنة. وفي المقابل، فقد بقي مخيم خان دنون جنوبي دمشق وحماة في مأمن نسبياً. أمّا في الشمال، فقد شهد مخيم حندرات نزوحاً كاملاً لسكانه بسبب المعارك، بينما حافظ مخيم النيرب على سلامته خلال فترة الحرب.
وبهذا، يمكن تقسيم تأثير الحرب في المخيمات الفلسطينية إلى ثلاثة أقسام:
أولاً. المخيمات الآمنة: على الرغم من أن سكان هذه المخيمات لم يتعرضوا مباشرة للقصف أو الترحيل، فإن آثار الحرب السورية طالتهم بصورة كبير؛ إذ شهدت موجات نزوح ضخمة من الفلسطينيين والسوريين، وهو ما أدى إلى زيادة غير مسبوقة في عدد السكان، إذ ارتفعت نسبة القاطنين في بعض المخيمات إلى 300% خلال فترة تصاعُد الحرب، ونتيجة هذه الزيادة السكانية، فقد تم تحويل مدارس الأونروا إلى ملاجئ جماعية لاستيعاب النازحين، وهو ما كان له تأثير كبير في المستوى التعليمي في تلك المخيمات. كما كانت للتوسع السكاني تداعيات سلبية على البنى التحتية، إذ تفاقمت مشكلات قديمة وظهرت أُخرى جديدة، فتأثرت الشبكة الكهربائية كثيراً بسبب الضغط الشديد عليها، وهو ما أدى إلى تقنين كهربائي طويل وأعطال متكررة. أمّا المجاري الصحية، فقد عانت جرّاء انسدادات متقطعة، بينما تأثرت موارد المياه، وخصوصاً في فصل الصيف، الأمر الذي أدى إلى نقص حاد في إمدادات المياه في تلك المخيمات.
ثانياً. المخيمات التي نزح سكانها من دون تدميرها: لم يتعرض سكان هذه المخيمات لتدمير البنية التحتية والمباني، لكن الوضع الأمني المتوتر واحتدام المعارك العسكرية في محيطهم جعل تأمين سبل الحياة أمراً مستحيلاً، وهو ما جعل السكان يختارون النزوح كي يخرجوا من حالة القلق المستمرة وعدم الأمان. وبالإضافة إلى ذلك، فقد فرض الحصار المطبق على هذه المخيمات قيوداً شديدة على توفير الحاجات الأساسية، كالطعام والشراب، وهو ما زاد من معاناتهم، وجعل الحياة اليومية فيها تتسم بالصعوبة البالغة.
ثالثاً. المخيمات المدمرة: تُعد هذه الفئة الأكثر تأثراً بالأزمة السورية، إذ فقد فيها الناس منازلهم بعد أن دُمرت جرّاء القصف العنيف الذي طال المخيمات. وحتى المنازل التي بقيت صامدة، فقد أصبحت غير قابلة للعيش، إذ طال الدمار شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، الأمر الذي يستلزم عمليات إصلاح شاملة لإعادة تأهيل المخيمات، بحيث تصبح صالحة للسكن من جديد.
3. اللاجئون الفلسطينيون وتداعيات السقوط
بمجرد سقوط نظام الأسد، شرع عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من سورية منذ سنة 2011 إلى البلاد المجاورة في العودة إلى ديارهم، وقد عادوا من أماكن عديدة، كلبنان والأردن، بالإضافة إلى محافظة إدلب في الشمال التي كان يقطن فيها عدد كبير من النازحين الفلسطينيين.
1) المخيمات
تقاسم الفلسطينيون في سورية تداعيات المرحلة الجديدة مع السوريين، سواء من حيث الترتيبات الأمنية أو التكافل الاجتماعي بين السكان، ويمكن فهم التغييرات التي جرت في المخيمات بالآتي:
أولاً: إدارة المخيمات وحمايتها
بادر عدد من المخيمات إلى تشكيل لجان حماية لضمان أمن سكانها، وذلك في ظل تراجع دور الشرطة خلال الأيام الأولى للعهد الجديد في سورية، كما بدأت تتشكل هيئات لإدارة المخيم، فعلى سبيل المثال؛ تشكلت في مخيم الرمل، في اللاذقية، هيئة تحمل اسم هيئة فلسطين، مكونة من مجموعة وجهاء.
وعلى الرغم من نجاح هذه اللجان، بالتنسيق مع السلطات الجديدة، في فرض قدر من الاستقرار، فإن حالات الشغب لم تغب عن المشهد، ولا سيما من جانب بعض السجناء المفرَج عنهم، والذين كانوا محكومين بجرائم جنائية. وفي هذا السياق، فقد أصدرت الحكومة السورية الجديدة سلسلة من القرارات تشدد على ضرورة ملاحقة المحكومين جنائياً لضمان الأمن والاستقرار في المجتمع.
ثانياً: النشاط الجماهيري
لم يتراجع الدور الوطني للمخيمات الفلسطينية في مواجهة القضايا الكبرى، إنما ظل حاضراً، إذ شهدت مخيمات عديدة نشاطات جماهيرية متنوعة بمناسبة وقف إطلاق النار في غزة، وانتصار الثورة في سورية. وقد تنوعت هذه النشاطات بين فعاليات رياضية، ومسيرات، ومهرجانات، وجاءت كلها بمبادرات شبابية وأهلية، مع مشاركة فاعلة للفصائل الفلسطينية في التنظيم والحضور. وإلى جانب ذلك، فقد قام بعض الفصائل واللجان المحلية بمبادرات إغاثية، شملت تنظيف الشوارع وتوزيع الخبز، في محاولة للتخفيف من معاناة سكان المخيمات وتحسين أوضاعهم المعيشية.
ثالثاً: الوضع الخدماتي
على غرار المناطق السورية الأُخرى، تدهورت الأوضاع الخدماتية في المخيمات؛ إذ تراجعت ساعات التغذية الكهربائية إلى ما بين ساعتين وثلاث ساعات يومياً، وسط وعود وجهود حكومية حثيثة لتحسين إمدادات الكهرباء، كما استمرت مشكلات المياه والصرف الصحي من دون حلول جذرية، وظهرت مشكلة جديدة تمثلت في تراكم النفايات بسبب غياب عمال النظافة.
2) الفصائل الفلسطينية
بعد سقوط نظام الأسد، سارعت الفصائل الفلسطينية في سورية إلى عقد اجتماع طارئ في 11/12/2024 بهدف توحيد صفوفها وتقديم نفسها إلى القيادة السورية الجديدة بصيغة موحدة؛ إذ اجتمع ممثلو 14 فصيلاً داخل سفارة دولة فلسطين، بمشاركة جيش التحرير الفلسطيني، وأسفر اللقاء عن بيان مشترك، كان من أبرز بنوده تشكيل هيئة العمل الوطني الفلسطيني المشترك كمرجعية وطنية موحدة. وعلى الرغم من ظهور عوامل النجاح على هذه الخطوة، فإنها سرعان ما تعثرت قبل أن تحقق أهدافها المرجوة، وذلك نظراً إلى أن الأوضاع التي أوجدت هذا الاجتماع تغيرت نتيجة تغيُر أوضاع العمل الفلسطينية في سورية، وخصوصاً مع التغيرات الكبيرة التي حدثت ضمن بعض الفصائل الحاضرة في هذا الاجتماع، إذ تباين تأثير سقوط النظام السوري في الفصائل الفلسطينية؛ فعلى مستوى الهيكل القيادي، يمكن تمييز هذا الأثر بين الفصائل المنضوية تحت منظمة التحرير الفلسطينية، والتي تمكنت من الحفاظ على بنيتها القيادية، وبين الفصائل المنضوية تحت تحالف قوى المقاومة الفلسطينية، والتي شهدت تغييرات كبيرة في قياداتها. ويشير الجدول رقم 3 إلى الفصائل الأكثر تأثراً جرّاء التغيير في سورية.
3) الجهات الرسمية الفلسطينية
تتجه الحكومة السورية الجديدة إلى التعامل مع الشأن الفلسطيني من أبوابه الرسمية، إذ عملت على عقد اجتماعات مع تلك الجهات لتأكيد استمرار عملها، بالإضافة إلى تحديد قنوات الاتصال معها، ويشير الجدول رقم 4 إلى الجهات الرسمية التي تُعنى بالشأن الفلسطيني، واستمرارية فعاليتها بعد 8/12/2024.
4) زيارة وفد دولة فلسطين سورية
وصل وفد رسمي من دولة فلسطين إلى العاصمة السورية دمشق في 28/1/2025 برئاسة رئيس الوزراء الدكتور محمد مصطفى، وذلك بهدف تعزيز العلاقات الثنائية ومد جسور التواصل مع القيادة السورية الجديدة. وقد التقى الوفد الرئيسَ السوري أحمد الشرع، في لقاء وصفه السفير الفلسطيني في سورية وعضو الوفد المذكور آنفاً، الدكتور سمير الرفاعي، بالإيجابي والمثمر، مشيراً إلى حرص فلسطين على بناء علاقات متينة مع سورية.
وأشار السفير الرفاعي إلى أن الجانبَين ناقشا آخر التطورات في البلدين، وأكد الوفد الفلسطيني استعداد فلسطين للمساهمة في عملية إعادة الإعمار، بما يعزز التعاون الاقتصادي بين الدولتين، ويفتح آفاقاً جديدة للشراكة. ومن جانبه، أبدى الرئيس السوري أحمد الشرع موقفاً إيجابياً تجاه فلسطين، مؤكداً عمق العلاقة التاريخية بين الشعبين الفلسطيني والسوري، واصفاً الفلسطينيين بالأهل والإخوة.[6]
4. آفاق الوجود الفلسطيني
على مدار عقود من الزمن، استطاع الفلسطينيون في سورية أن يبنوا علاقة متينة مع المجتمع السوري، إذ عاشوا في تناغم واندماج من دون أن يشعروا بأنهم غرباء أو ضيوف، إذ كان الشعب السوري ينظر إليهم كجزء طبيعي من نسيج المجتمع، ويعتبرهم امتداداً له، لا مجتمعاً أجنبياً. وهذه العلاقة الخاصة ساعدت الفلسطينيين في التكيف بصورة أفضل مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في سورية.
وعلى الرغم من الانسجام الشعبي، فإن مخاوف اللاجئين الفلسطينيين في سورية لا تزال قائمة بشأن مستقبل مخيماتهم وآلية إدارتها، إذ يترقبون فتح ملف إعادة إعمار ما دُمِّر خلال الأعوام الماضية، ويتساءلون عن كيفية تعامُل الدولة السورية مع هذا الملف الحساس. كما يطمح العديد منهم إلى استمرار الدور الحكومي في تقديم الدعم والمساعدة في إدارة المخيمات لضمان استقرار أوضاعهم.
أمّا التساؤل الأكثر إلحاحاً، فهو متعلق بالأوضاع المعيشية والإطار القانوني الذي سيحكم وجودهم في سورية مستقبلاً. وعلى الرغم من بعض المؤشرات الإيجابية من جانب القيادة السورية الجديدة، كتعيين وزير فلسطيني في الحكومة، في خطوة تشير إلى تأكيد القرار رقم 260 المشار إليه سابقاً، بالإضافة إلى ذلك الكلام المطمئن الذي تحدّث به الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الوفد الفلسطيني، فإن مستقبلهم ما زال يكتنفه الغموض، إذ يصف مدير مديرية شؤون الفلسطينيين في الشمال السوري محمد بدر الوضع الحالي للّاجئين في سورية بأنه "غامض، وَهُم في حالة ترقّب بشأن 'ماذا سيكون وضعهم بعد سقوط نظام الأسد؟‘"، ويضيف: "مبدئياً، وإلى حين تشكيل مرحلة حكم جديدة والبدء بتغيير القوانين ودستور البلد، سيبقى وضع الفلسطينيين كما هو حتى اتضاح الرؤية مستقبلاً"، وأضاف بدر أنه لا توجد حالياً سياسة أو خطط لتوطين الفلسطينيين بسبب وجود قوانين ناظمة للتعامل معهم، وأهمها القانون 260 لسنة 1956، لكن هناك شريحة من الفلسطينيين تطالب بمنحهم الجنسية السورية لتسهيل أمورهم في سورية، واقتران هذا الإجراء ببند الحفاظ على حق العودة.[7]
الخلاصة
على الرغم من كل التحديات المتعلقة بالوضع القانوني للّاجئين وإعادة إعمار مخيماتهم واستمرار عمل مؤسساتهم التمثيلية، فإن تمسُّك الفلسطينيين بمخيماتهم يبقى راسخاً لا يتزعزع، ويتجلى ذلك في مظاهر عديدة تعكس ارتباطهم العميق بهذه الأرض، وكان أبرزها إعادة التسمية الموجودة عند مدخل مخيم اليرموك، إذ استُبدل الاسم الذي وُضع عليه من جانب الحكومة السورية السابقة في نيسان/أبريل 2023، وهو "شارع اليرموك"، باسمه الأصلي "مخيم اليرموك"، وذلك بعد أيام قليلة من سقوط النظام السوري، كما تجلّى هذا التمسك بعودة أكثر من 280 عائلة إلى مخيم اليرموك فور قيام منظمة التحرير الفلسطينية سنة 2018 بإزالة 70% من الأنقاض من شوارعه، وهذا ما يعكس إصرار اللاجئين الفلسطينيين على العودة إلى منازلهم والحفاظ على إرثهم وهويتهم.