أهداف إسرائيل من استئناف حرب الإبادة على قطاع غزة

اسرائيل
غزة
لن يكتفي نتنياهو باستعادة الأسرى الإسرائيليين بصفقة أو من دونها، فهو يبدو مصممًا على إعادة احتلال قطاع غزة، ليس للقضاء على حكم حماس وقوّتها العسكرية فقط، بل أيضًا لتهيئة الظروف الفعلية لتهجير الفلسطينيين وفق خطة ترمب، إذا لم يجرِ التصدي له على الصعيدَين العربي والفلسطيني، مع إعطاء الأولوية لوقف الحرب على القطاع وإعادة بنائه، على نحوٍ يمكّن أهله من الصمود وإفشال مخطط التهجير.


الدار- خرقت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرمته مع حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، في 19 كانون الثاني/ يناير 2025، بوساطة قطرية – مصرية - أميركية، وذلك بأن رفضت الشروع في مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق في اليوم السادس عشر من بدء تنفيذه، وفق ما جاء في النص المبرَم بين الطرفين[1].
 ورفضت أيضًا الانسحاب من محور صلاح الدين الحدودي بين قطاع غزة ومصر، الذي كان يفترض استكمال انسحابها منه في مدة لا تتجاوز الخمسين يومًا من بدء تنفيذ الاتفاق.
عند نهاية المرحلة الأولى من الاتفاق، في 1 آذار/ مارس 2025، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أنه يريد تمديد هذه المرحلة؛ من أجل التفاوض بشأن إطلاق سراح المزيد من المحتجزين الإسرائيليين، وأنه لن ينتقل إلى المرحلة الثانية من الاتفاق لإكمال التفاوض بشأن تبادل الأسرى وإنهاء الحرب، كما كانت تطالب حركة حماس. وقد أيدت الإدارة الأميركية موقفه، وقدّم مبعوثها للشرق الأوسط ستيف ويتكوف مقترحًا لتبادل الأسرى ينسجم مع ذلك، مفاده تمديد المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار بنحو 50 يومًا لإجراء مفاوضات غير مباشرة، بهدف إطلاق سراح نصف الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات في اليوم الأول من تنفيذ الاتفاق، ثم إطلاق سراح باقي الأسرى الإسرائيليين الأحياء والأموات في حال جرى الاتفاق على وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار في نهاية الفترة المحددة[2]. وقد رفضت حركة حماس هذا المقترح وطالبت بتنفيذ الاتفاق الموقَّع بين الطرفين، كما هو، والشروع في التفاوض على المرحلة الثانية منه.

وتبادلت إسرائيل وحركة حماس العديد من المقترحات، من خلال الوسطاء. وفي حين قبلت الحركة المقترح المصري ووافقت على إطلاق سراح 5 محتجزين إسرائيليين، مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين ووقف إطلاق النار 50 يومًا، قدّمت إسرائيل مقترحًا بديلًا دعت فيه إلى إطلاق سراح 11 محتجزًا إسرائيليًا وإعادة 16 جثمانًا وتقديم معلومات عن جميع المحتجزين الإسرائيليين، مقابل وقف القتال 40 يومًا وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين[3].

وقف المساعدات الإنسانية واستئناف حرب الإبادة
لا يزال نتنياهو يرفض وقف حرب الإبادة على قطاع غزة ويتمسك باستمرارها حتى تحقّق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، وهي القضاء على حكم حماس وقوّتها العسكرية في القطاع واستعادة المحتجزين الإسرائيليين، وتهجير الفلسطينيين، وذلك من خلال تحويل غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة، عبر القتل، والحصار، والتجويع، والتدمير. ويصرّ على إجراء المفاوضات غير المباشرة مع حماس، والقطاع يئنّ تحت وطأة الحصار الشامل والتجويع وإطلاق النار.

في هذا السياق، أوقفت الحكومة الإسرائيلية، في 2 آذار/ مارس 2025، إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وأغلقت المعابر بينه وبين مصر وإسرائيل، وأحكمت الحصار الكامل عليه حتى إشعار آخر[4]. وفي 18 آذار/ مارس، استأنفت حرب الإبادة بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، من أجل تحقيق أهداف الحرب والضغط أيضًا على حركة حماس لقبول الشروط الإسرائيلية لصفقة تبادل الأسرى[5]. وشنّت هجومًا مباغتًا على القطاع، أسفر عن استشهاد 436 فلسطينيًا في اليوم الأول من استئناف حرب الإبادة، كان من بينهم 183 طفلًا و94 امرأة و65 مسنًّا تزيد أعمارهم على 65 عامًا[6].

وفي 23 آذار/ مارس 2025، صدّق الكابينت السياسي الأمني على إقامة مؤسسة حكومية إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، أُطلق عليها اسم "مديرية نقل سكان غزة طوعيًا إلى دول أخرى"[7]. ويُعدّ اتخاذ هذا القرار، بصورة علنية، سابقة في تاريخ مخططات الحكومات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين، التي دأبت دومًا على إبقاء مثل هذه القرارات سرية؛ ما يشير إلى جدية الحكومة الإسرائيلية في سعيها لتنفيذ التهجير من القطاع. وقد حدد الكابينت السياسي الأمني لمديرية تهجير الفلسطينيين من القطاع مجموعة من المهمات، من بينها الاستعدادات اللازمة لتوفير الممرات الآمنة لسكان القطاع لإخراجهم إلى دول أخرى، وذلك بتمهيد الطرق وتأمين تحرّكهم فيها، وإقامة مراكز فحص للمشاة في الممرات المزمع إنشاؤها، والتنسيق لإقامة بنية تحتية في داخل القطاع وإسرائيل تتيح عبور الطرق البرية والبحرية والجوية إلى الدول التي سيتم تهجير الفلسطينيين إليها من غزة[8].

وأوضح نتنياهو، في مستهل اجتماع الحكومة الإسرائيلية في 30 آذار/ مارس 2025، أن الضغط العسكري الإسرائيلي المرافق للضغط السياسي هو الأمر الوحيد الذي يعيد المحتجزين الإسرائيليين. وأضاف أنّ خطة الحكومة الإسرائيلية لليوم التالي للحرب هي: نزع سلاح حماس وإبعاد قادتها إلى خارج قطاع غزة، ووضع الأمن العام في القطاع تحت سيطرة إسرائيل، وتنفيذ خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لـتهجير الفلسطينيين طوعيًا من قطاع غزة[9].

هل يتمكن نتنياهو من تحقيق أهدافه؟
يستند نتنياهو في محاولاته تحقيق أهداف الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة إلى العوامل التالية:

تحظى الحكومة الإسرائيلية في سعيها لتحقيق أهداف حرب الإبادة على قطاع غزة بدعم إدارة ترمب غير المتحفظ، لا سيما فيما يخص تهجير الفلسطينيين من القطاع، والذي تبنّى بالكامل رؤية الحكومة الإسرائيلية اليمينية في هذا الشأن[10]، عندما طَرح في بداية شباط/ فبراير 2025 خطته لتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى مصر والأردن ودول أخرى[11]. وهذا تحوّل نوعي خطير في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية والمنطقة العربية يحمل في طياته "تصفية" هذه القضية إذا لم يجرِ التصدّي له وإفشاله. وتقدّم إدارة ترمب مختلف أشكال الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي لإسرائيل من دون شروط؛ ما يمكّنها من الاستمرار في حرب الإبادة وارتكاب المجازر ضد المدنيين الفلسطينيين. ويرى نتنياهو وحكومته أنّ هذه الإدارة تمارس ضغوطًا على الدول العربية ودول المنطقة أكثر من أيّ إدارة أميركية سابقة، من أجل احتواء معارضة هذه الدول لحرب الإبادة على القطاع وتخفيفها.
يقف نتنياهو على أرضية صلبة على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، فحكومته التي تستند إلى ائتلاف يميني متطرف، ذات أغلبية في الكنيست تبلغ 68 عضوًا من مجموع 120. وعلى الرغم من المماحكات الداخلية التي تظهر بين الفينة والأخرى في صفوف الائتلاف الحكومي، لا سيما بين الحزبَين الفاشيَّين، "القوة اليهودية" بقيادة إيتمار بن غفير و"الصهيونية الدينية" بقيادة بتسلئيل سموتريتش، فإنّ هذا الائتلاف يظل متماسكًا. فهذه الخلافات تأتي في سياق المنافسة في التطرف، خاصة بين الحزبَين لتحقيق مكاسب لكل منهما في داخل الائتلاف الحكومي، ولنيل دعم الجمهور اليميني الديني المتطرف، وليس في سياق الخروج من الائتلاف الحكومي وإسقاطه[12]. وقد تمكّن نتنياهو من شق صفوف المعارضة وتعزيز ائتلافه الحكومي، ففي 29 أيلول/ سبتمبر 2024، عاد جدعون ساعر وحزبه "اليمين الرسمي-أمل جديد" إلى الائتلاف الحكومي[13]. وفي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أقال نتنياهو وزير الأمن يوآف غالانت بعد خلافات طويلة، وعيّن محلّه يسرائيل كاتس[14]. وفي 13 آذار/ مارس 2025، وقّع حزبَا الليكود و"اليمين الرسمي" بقيادة ساعر اتفاقًا عاد بمقتضاه الأخير وحزبه إلى حزب الليكود[15]. وبهذا، عزز نتنياهو مكانته داخل حزب الليكود وائتلافه الحكومي ودوره في صنع القرارات التي تخص الحرب، لا سيما أن كاتس ليست لديه خلفية عسكرية أو أمنية، ويحرص على الإذعان له وتجنّب الخلاف معه. إلى جانب ذلك، دفع نتنياهو وكاتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي إلى تقديم استقالته من منصبه، في 21 كانون الثاني/ يناير 2025[16]. وفي 1 شباط/ فبراير 2025، قرّرا تعيين إيال زمير رئيسًا لأركان الجيش الإسرائيلي، ليتولى منصبه في 6 آذار/ مارس 2025. وبذلك تخلّص نتنياهو من هليفي، فقد ساد خلاف طويل بينهما بشأن العديد من القضايا، مثل الانقلاب القضائي والمسؤولية عن التقصير في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومجريات حرب الإبادة على قطاع غزة، لا سيما فيما يخص اليوم التالي للحرب ومسألة المحتجزين الإسرائيليين. أما زمير الذي شغل منصب السكرتير العسكري لرئيس حكومة نتنياهو في السنوات 2012-2015، ومنصب نائب رئيس الأركان، ومدير عام وزارة الأمن، فإن علاقته بنتنياهو جيدة. وخلافًا لهليفي، يؤيد زمير احتلال القطاع، وقد وضع خطة عسكرية شاملة لذلك، وأقام مديرية داخل وزارة الأمن لتهجير الفلسطينيين منه[17]. وتمكّن نتنياهو، الذي يدرك جيدًا عمق انزياح المجتمع الإسرائيلي إلى مواقف اليمين المتطرف وقيمه، من استعادة قوة حزب الليكود وشعبيته، فقد بات هذا الحزب يشغل المكانة الأولى في جميع استطلاعات الرأي العام في إسرائيل، وبات نتنياهو نفسه يحظى أيضًا وفق هذه الاستطلاعات بالمكانة الأولى في التأهّل لشغل منصب رئيس الحكومة من بين صفوف القادة الإسرائيليين، متفوقًا بذلك على قادة المعارضة الإسرائيلية، باستثناء نفتالي بينيت الذي اعتزل العمل السياسي عقب انتخابات الكنيست الأخيرة، ويسعى ليشارك في انتخاباته المقبلة.
أدى توقيع العديد من الدول العربية اتفاقيات سلام مع إسرائيل وتخلّي أخرى عن دعمها للقضية الفلسطينية، إلى تغيير طبيعة العدوّ الذي تواجهه إسرائيل من دول إلى تشكيلات عسكرية ما دون الدولة. وقد أثّر ذلك، إضافةً إلى التطورات التكنولوجية التي غيّرت طبيعة الحروب، في بناء القوة في الجيش الإسرائيلي. فقد تقرر منذ أكثر من ثلاثة عقود البدء في تحويله من جيش كبير إلى "جيش صغير وذكيّ" بموجب خطة رئيس أركان الجيش الذي أصبح رئيسًا للحكومة، إيهود باراك، وتركيز عملية بناء القوة فيه على تطوير سلاح الجو وتزويده بأحدث الطائرات والمسيّرات العسكرية، وعلى الاستخبارات العسكرية والأجهزة الأمنية المختلفة، وعلى منظومات السايبر والذكاء الاصطناعي. وقد أدى ذلك كلّه إلى تقليص قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي وزيادة الاعتماد على الجيش النظامي. ففي أعقاب تقليص هذه القوات من ناحية، وزيادة عدد سكان إسرائيل من ناحية أخرى، أصبح 6 في المئة فقط من السكان مسجَّلين في منظومة قوات الاحتياط، ويُستدعى للخدمة الفعلية فيها أقل من 2 في المئة من مجموع السكان[18]. وقد أدى ذلك إلى تمكين إسرائيل من خوض حروب طويلة الأمد على خلاف ما كان عليه الوضع عندما كانت تخوض حروب قصيرة جدًا؛ لأن جيشها كان يعتمد في الماضي على قوات الاحتياط، التي لا يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي الاستغناء عنها فترة طويلة.
يعتقد نتنياهو والقيادة العسكرية الإسرائيلية أن قدرة قطاع غزة والمقاومة على الصمود محدودة. فبالرغم من المقاومة الباسلة التي أبداها مقاتلو حماس والتنظيمات الفلسطينية الأخرى والصمود الأسطوري للفلسطينيين في غزة، فإنه يرى أنّ إسرائيل تستطيع تحقيق أهداف الحرب بعد تعيين مسؤولين طيّعين موالين له، وهما كاتس وزمير، وذلك في ظروف استفراد إسرائيل بالقطاع عقب تحييدها لحزب الله وإيران وإحجام الدول العربية عن ممارسة ضغط حقيقي عليها لوقف الحرب، واستمرار إدارة ترمب في تقديم الدعم لها. ويعتقد نتنياهو أن إسرائيل تستطيع أن تحقق أهداف الحرب، سواء بعقد صفقة أو صفقات تبادل أسرى مع حماس لتستأنف بعدها الحرب، أو من دون عقدها، من خلال الحصار والتجويع واستمرار الحرب وارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين وتوسيع الجيش النظامي الإسرائيلي لاحتلال مناطق في غزة تدريجيًا، بعد إخلاء سكّانها منها، وتقطيع أوصالها إلى أكثر من خمس مناطق يحاصرها الجيش الإسرائيلي ويستمر في قضمها شيئًا فشيئًا. وتنسجم سياسة نتنياهو في إصراره على احتلال القطاع وتحقيق النصر المطلق مع السياسة الإسرائيلية الشاملة منذ عملية طوفان الأقصى تجاه كل من لبنان وسورية والدول العربية الأخرى، وتسعى هذه السياسة التي تستغلّ انحياز إدارة ترمب المطلقة إلى إسرائيل وعجز الدول العربية عن التصدي لها، إلى فرض منطقة نفوذ إسرائيلية في المشرق العربي[19].
خاتمة
لن يكتفي نتنياهو باستعادة الأسرى الإسرائيليين بصفقة أو من دونها، فهو يبدو مصممًا على إعادة احتلال قطاع غزة، ليس للقضاء على حكم حماس وقوّتها العسكرية فقط، بل أيضًا لتهيئة الظروف الفعلية لتهجير الفلسطينيين وفق خطة ترمب، إذا لم يجرِ التصدي له على الصعيدَين العربي والفلسطيني، مع إعطاء الأولوية لوقف الحرب على القطاع وإعادة بنائه، على نحوٍ يمكّن أهله من الصمود وإفشال مخطط التهجير.

* المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

للاطلاع على تقدير الموقف كاملا:

أخبار متعلقة