المفاوضات النووية الأميركية - الإيرانية: الخلفيات والعقبات والآفاق

الدار -   عقدت الولايات المتحدة الأميركية وإيران ثلاث جولات تفاوضية بوساطة عُمانية، تسعى من خلالها واشنطن لتقييد البرنامج النووي الإيراني، في حين تسعى طهران لرفع العقوبات الاقتصادية عنها. وقد انطلقت المفاوضات، في 12 نيسان/ أبريل 2025 في مسقط، تلتها جولة ثانية بإيطاليا في روما، وثالثة في مسقط مرة أخرى؛ في 19 و26 من الشهر نفسه على التوالي. وأجرى الوفدان المفاوضات في غرفتين منفصلتين في كلٍ من مسقط وروما، في حين ذكرت واشنطن أن المفاوضات كانت غير مباشرة، ومباشرة أيضًا، في إشارة إلى لقاء قصير جمع بين رئيسَي الوفدين المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، في الجولة الأولى.

أولًا: خلفية المفاوضات

خلال لقاء جمع بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، في 7 نيسان/ أبريل، أعلن ترمب عن "محادثات مباشرة"، تجري بين واشنطن وطهران "على أعلى مستوى"، لكن طهران نفت الخبر حينها. وأكد ترمب، منذ بدء ولايته الرئاسية الثانية أنه يريد إبرام اتفاق نووي جديد مع إيران، وهدد بأن البديل هو شن هجوم عسكري عليها إن لم توقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم. وكان الاتفاق النووي لعام 2015 قد حدد نسبة تخصيب اليورانيوم المسموح بها لإيران بـ 3.76 في المئة، كافية لتشغيل برنامج مدني. إلّا أن طهران ضاعفت، بدءًا من عام 2019، من معدلات التخصيب، بعد انسحاب ترمب من الاتفاق النووي، لتصل إلى نسبة نقاء مقدارها 60 في المئة. وبعث ترمب، في آذار/ مارس 2025، رسالة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، يحضّه فيها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وحذّره من مواجهة مزيد من العقوبات وضربات عسكرية واسعة النطاق، منها ما يستهدف المنشآت الإيرانية النووية. وعلى الرغم من أن الردَّ الأوّلي لخامنئي كان رفض التفاوض تحت التهديد، فإنه عدل عن موقفه ووافق على إجراء مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، عبر الوسيط العُماني.
تعمل الولايات المتحدة، منذ أسابيع، على تعزيز قدراتها العسكرية في المنطقة في سياق الحرب التي تشنها ضد جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، والتصعيد المحتمل ضد إيران. وفي مطلع نيسان/ أبريل، نشرت واشنطن طائرات قاذفة من طراز "بي-2" في المحيط الهندي، في رسالة تحذيرية لإيران من أجل دفعها إلى التفاوض حول برنامجها النووي. ويمكن أن تحمل قاذفات "بي-2" قنابلَ خارقة للتحصينات تستهدف المنشآت النووية الإيرانية في أعماق الجبال. وبعد الجولة الأولى من المفاوضات، نشرت واشنطن حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون" ومجموعتها المقاتلة في بحر العرب، لتنضم إلى حاملة الطائرات "يو إس إس هاري إس. ترومان"، لممارسة مزيد من الضغط على طهران[4]. وتواجه إيران أيضًا عقوبات اقتصادية صارمة، من جرّاء سياسة "الضغط الأقصى" التي اتبعها ترمب ضدها منذ عام 2018، والتي شملت حظر شراء الدول الأخرى للنفط منها؛ ما أدى إلى انخفاض صادرات النفط الإيرانية، ومغادرة الشركات الأجنبية أراضيها، وانهيار عملتها التي فقدت قرابة 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي، فضلًا عن مواجهة البلاد أزمة في الوقود والكهرباء في شتاء 2024-2025.
في المقابل، تواجه الولايات المتحدة تحديات إن قررت المضي في الخيار العسكري - مثلما تطالب إسرائيل - ضد البرنامج النووي الإيراني. فمن ناحية، تقوم مقاربة ترمب في السياسة الخارجية على تجنّب الحروب غير الضرورية، والتي لا ترتبط مباشرة بالأمن القومي الأميركي. ومن ناحية أخرى، تكتنف الشكوك قدرة أي عمل عسكري أميركي أو إسرائيلي، أو مشترك بينهما، على تدمير البرنامج النووي الإيراني كليًّا. فقد يعطّل الهجوم البرنامج مؤقتًا، ويؤخّر "زمن الاختراق" لصنع قنبلة نووية. وقد يدفع أيّ عمل عسكري ضد إيران إلى طرد المفتشين التابعين للأمم المتحدة، والإسراع في تحوّلها إلى دولة مسلّحة نوويًّا.

ثانيًا: جولات المفاوضات الثلاث
ركزت الجولة الأولى من المفاوضات في مسقط على تحديد مسار المحادثات وصيغتها[6]، بينما ركّزت الجولة الثانية في روما على وضع إطار عمل لكيفية سير المفاوضات. وبحسب عراقجي، فإن الطرفين اتفقا على البدء في وضع إطار عمل لاتفاق نووي محتمل، ووصف مسؤول أميركي بأن المفاوضات حققت "تقدّمًا جيّدًا للغاية". وفي 23 نيسان/ أبريل، عُقد لقاء في مسقط بين البلدين على مستوى الخبراء، وصفه مسؤول إيراني بأنه كان "صعبًا ومعقّدًا وجادًّا". وفي 26 نيسان/ أبريل، عُقدت الجولة الثالثة في مسقط مجددًا تبادل فيها الطرفان، بحسب عراقجي، نقاطًا مكتوبة، ودخلت في "مناقشات أعمق وأكثر تفصيلًا"، ووصفها مسؤول كبير في الإدارة الأميركية بأنها كانت "إيجابية وبنّاءة"[8].
وعلى الرغم من أن الطرفين اتفقا على عقد جولة رابعة من المفاوضات في روما في 3 أيار/ مايو 2025، فإنها تأجلت لأسباب لوجستية، بحسب وزير الخارجية العُماني، على أن يُحدّد موعدها لاحقًا[9]. ويبدو أن التأجيل كان بسبب عقوبات جديدة أعلنتها في 30 نيسان/ أبريل وزارة الخارجية الأميركية ضد شركات تقول إنها على صلة بطهران، متورطة في التجارة غير المشروعة للنفط والبتروكيماويات الإيرانية[10]. وفي اليوم التالي، أي قبل يوم واحد من الجولة الرابعة من المفاوضات، وجّه وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، تهديدات إلى إيران بذريعة دعمها الحوثيين في اليمن. ومع ذلك، فإنه من غير المرجّح أن يؤدي هذا التأجيل والتصعيد إلى انهيار المحادثات؛ إذ يسعى كلاهما لتجنب الانزلاق نحو الحرب.
ثالثًا: غموض المقاربة الأميركية
يتجنّب الهدف الاستراتيجي العام، الذي يكرره ترمب دائمًا، الإجابة عما إن كانت الولايات المتحدة تقبل بالتعايش مع واقع تكون فيه إيران قادرة على تخصيب اليورانيوم، بغض النظر عن نسبة التخصيب، وهو ما يجعلها مؤهلة لإنتاج سلاح نووي متى قررت ذلك. حضر هذا السيناريو في الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، ثمَّ حينما انسحب ترمب منه، فالاتفاق سمح لها بالحفاظ على بنيتها ومنشآتها النووية، وكذلك أجهزة الطرد المركزي. ومن هذا المنطلق، يجادل بعض المسؤولين في إدارة ترمب بأنه لا بد من تفكيك البرنامج النووي الإيراني كليًّا؛ وهو ما يطالب به نتنياهو كذلك، الذي يصر على أن الاتفاق الوحيد الذي تقبل به إسرائيل هو تفكيك البرنامج على غرار ما جرى في ليبيا عام 2003، "بإشرافٍ وتنفيذٍ أميركيَين"، وإن لم يحصل ذلك يكون اللجوء إلى "الخيار العسكري". في المقابل، ثمة في إدارة ترمب من يرى أن هذا الخيار غير واقعي وأن إيران لا يمكن أن تقبل به، وإن أصرّت واشنطن على هذا الشرط، فإن ترمب سيضطر إلى خوض حرب مع إيران كما هدد غير مرة. ومن المعلوم أن النقاشات داخل إدارة ترمب بشأن إيران ما زالت مستمرة.
يضمّ المعسكر الأول الذي يؤمن بأولوية الحل الدبلوماسي، حتى لو تضمّن ذلك الحفاظ على بنية نووية إيرانية محدودة وخاضعة للرقابة المشددة، كلًّا من نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الدفاع هيغسيث، وويتكوف. وأبلغ الأخير مسؤولي إدارة ترمب أن الإصرار على التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني سيعني عدم التوصل إلى اتفاق، ومن ثمَّ فإن الخيار البديل هو ضرب المنشآت النووية الإيرانية، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات أمنية وسياسية واقتصادية على المصالح الأميركية[14].
يضم المعسكر الثاني، الذي يطالب بتفكيك البرنامج النووي الإيراني كليًّا، كلًا من وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز (أقاله ترمب مؤخرًا)، وعضو مجلس الشيوخ المقرب من ترمب ليندسي غراهام. ويرى هذا الفريق أن الإبقاء على البرنامج والمنشآت النووية الإيرانية سيعرّض ترمب لانتقادات كبيرة؛ إذ إنه "يكرر خطأ" إدارة باراك أوباما، الذي سبق أن وصفه ترمب بأنه "كارثة". ويقول هذا الفريق أيضًا إن إيران أضعف من أي وقت مضى؛ بسبب الضرر الذي ألحقته إسرائيل بقدرات حلفائها (خاصة حزب الله اللبناني) وسقوط نظام بشار الأسد في سورية، فضلًا عن الضربات التي يتعرّض لها الحوثيون في اليمن. ويرى هؤلاء أن إيران اليوم أكثر هشاشة من ذي قبل، من جرّاء العقوبات الاقتصادية الأميركية الصارمة المسلّطة عليها، وتعزيز الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، فضلًا عن نجاح إسرائيل في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 في تدمير دفاعات جوية استراتيجية لطهران خلال الهجوم عليها؛ ما يعني انكشافًا كبيرًا في مواقعها النووية والعسكرية الحساسة، أمام أي هجمات في المستقبل.
وما يدلّ على الخلاف داخل إدارة ترمب في هذا الملف أن ويتكوف كان قد صرّح، في 14 نيسان/ أبريل، بعد الجولة الأولى من المفاوضات، بأنه لا يستبعد أن يُسمح لإيران بمواصلة تخصيب اليورانيوم عند مستوى 3.67 في المئة اللازم لبرنامج الطاقة النووية السلمي، على أن يجري التأكد من أنها لا تصنع صواريخ باليستية يمكنها حمل سلاح نووي أو تصنع مشغلات يمكنها تفجير قنابل نووية. غير أنه تراجع عن تصريحه بعد يوم واحد، مؤكدًا أن "إيران يجب أن توقف وتقضي على برنامجها للتخصيب والتسليح النووي"؛ وهو ما ترفضه إيران قطعيًّا. بل إن روبيو يذهب أبعد من ذلك، بتشديده على أن إيران ينبغي لها أن توقف تخصيب اليورانيوم، بموجب أي اتفاق مع الولايات المتحدة، وأنه لن يُسمح لها إلا بـ "استيراد ما تحتاجه لبرنامج نووي مدني.
رابعًا: الموقف الإيراني
تشدّد إيران على حقها في تخصيب اليورانيوم، لكنها تبدي استعدادًا لقبول قيود معيّنة على ذلك. وحددت المبادئ التي تريدها في الاتفاق النووي في النقاط التالية:
يجب أن يتضمن الاتفاق رفع العقوبات المفروضة على إيران.
الحصول على ضمانات موثوقة من ترمب بأنه لن ينسحب من الاتفاق النووي مجددًا، كما فعل عام 2018.
أن لا يتضمن الاتفاق التفكيك الكامل للبنية التحتية النووية الإيرانية، بما في ذلك أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم، أو وقف التخصيب تمامًا، أو خفض مخزونها من اليورانيوم المخصّب إلى ما دون المستويات المتفق عليها في اتفاق عام 2015.
أن لا تشمل المفاوضات البرنامج الصاروخي الإيراني، الذي تعتبره طهران خارج نطاق أي اتفاق نووي.
أن تضغط الولايات المتحدة على إسرائيل خلال المحادثات للامتناع عن التهديد بمهاجمة إيران.
وبحسب مسؤول إيراني، فإن إيران لمست خلال "المحادثات غير المباشرة في عُمان أن واشنطن لا تريد أن توقف إيران جميع أنشطتها النووية، ويمكن أن يشكّل هذا أرضية مشتركة لبدء مفاوضات عادلة"[19]. وفي المقابل، طرحت إيران إمكانية إقامة مشروع مشترك لإدارة منشآتها للتخصيب النووي، وهو خيار من شأنه أن يسمح لإدارة ترمب بأن تعلن أنها أبرمت اتفاقًا مختلفًا عن اتفاق إدارة أوباما. ودعا وزير الخارجية الإيراني الولايات المتحدة إلى الاستثمار في برنامج بلاده النووي، والمساعدة في بناء 19 مفاعلًا نوويًّا في إطار إجراء أمني إضافي.

وصرّح مسؤول إيراني كبير أيضًا بأن بلاده منفتحة على نقل مخزونها من اليورانيوم المخصّب إلى روسيا أو دولة أخرى، تمامًا كما فعلت في أوائل عام 2016 مع دخول الاتفاق النووي في عهد أوباما حيّز التنفيذ.

خاتمة

يصعب الجزم بقدرة واشنطن وطهران على التوصل إلى اتفاق نووي جديد، في ظرف يتّسم بالخلافات والتوقعات بينهما حول الاتفاق وشروطه. غير أنه يمكن القول إن ثمَّة نبرة توحي بالتفاؤل الحذر عند الطرفين؛ وأساسه رغبتهما في تجنّب الحرب. ويبدو أن العقدة الأبرز في المفاوضات تتمثل فيما إن كان سيُسمح لإيران بالاحتفاظ بمنشآتها النووية وإمكانية تخصيب اليورانيوم، ولو بالمستويات المطلوبة لإنتاج الطاقة المدنية؛ أي بنسبة 3.67 في المئة. ويتعرض ترمب لضغوط من داخل إدارته ومن إسرائيل، حتى لا يعود إلى اتفاق شبيه بالاتفاق الذي أبرمته إدارة أوباما. إلا أن ثمَّة من يطرح تدابير إضافية لتحسين ذلك الاتفاق، قد تشمل مراقبة أكثر صرامة للأنشطة النووية الإيرانية، ومشاريع مشتركة لإدارة المنشآت النووية، وجعل ضمانات إيران دائمة[22]. في المقابل، تجد إيران نفسها في وضع أكثر انكشافًا مما كانت عليه قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يضاف إلى ذلك السخط الشعبي المتزايد من التأثير البالغ للعقوبات الاقتصادية في المستوى المعيشي للإيرانيين. ومن ثمَّ، فهي أكثر حرصًا على التوصل إلى اتفاق نووي، لا يمس بخطوطها الحمراء. يبقى العامل الإسرائيلي، وإصرار نتنياهو على ضرورة أن يتناول أي اتفاق مع إيران تفكيك منشآتها ونقل معداتها النووية خارج البلاد، ومنعها منعًا باتًّا من التخصيب[23]. ويصرّ نتنياهو أيضًا على وضع حدّ لبرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، وتوقّف إيران عن دعم حزب الله والحوثيين وحركات المقاومة الفلسطينية، وهو ما ترفضه طهران. وتتسرب معلومات عن ضغط الحكومة الإسرائيلية على واشنطن، من أجل أن تسمح لها بالقيام بعمل عسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية، حتى إن كان محدودًا[24]، إلا أن إدارة ترمب ترفض ذلك ما دام ثمّة احتمال للتوصل إلى اتفاق.

أخبار متعلقة