لكن وسط هذه الأجواء الدافئة، تبرز تحديات مالية تواجهها العديد من الأسر، إذ يشهد الإنفاق خلال رمضان ارتفاعا ملحوظا مقارنة ببقية أشهر السنة. فمع تزايد الالتزامات، من تحضير الموائد إلى شراء مستلزمات الضيافة، يجد كثيرون أنفسهم أمام ضغوط مالية غير متوقعة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.الضغط المالي والعادات الاجتماعية
بهذا الجانب، أكد المختص في علم الاجتماع الدكتور محمد جريبيع، في حديثه لـ "الغد"، أن الظروف الاقتصادية الحالية في الأردن تعد من الأصعب، ما يؤثر بشكل مباشر على العديد من العادات والتقاليد، سواء في رمضان أو غيره من المناسبات.
وأوضح أن رمضان يُعرف في المجتمع الأردني بأنه فرصة للتلاقي مع الأهل وصلة الأرحام والتجمعات العائلية. إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة ساهمت في تقليل العزائم والمناسبات الاجتماعية بشكل عام.
وأشار جريبيع إلى أن العادات الاجتماعية المتبعة في رمضان تتأثر بشكل كبير بالتغيرات الاقتصادية، ما يؤدي إلى عزوف بعض الأسر عن تنظيم العزائم الرمضانية خوفا من الضغوط المالية.
النفقات الرمضانية "ضعف" الإنفاق الشهري الاعتيادي
النفقات الرمضانية "ضعف" الإنفاق الشهري الاعتيادي
تشير الإحصائيات إلى أن معدلات الإنفاق الأسري في الأردن تزداد بشكل كبير خلال شهر رمضان، حيث يتركز الجزء الأكبر من المصاريف على المواد الغذائية والمستلزمات الخاصة بالعزائم والولائم الرمضانية. ومع هذا الارتفاع الملحوظ، تجد العديد من العائلات نفسها أمام معادلة صعبة: كيف يمكنها الحفاظ على طقوس الشهر الفضيل دون أن ترهق ميزانيتها أو تتجاوز إمكانياتها المالية؟
كشف تقرير حديث صادر عن شركة "إبسوس" لأبحاث السوق أن 66 % من الأردنيين يخططون مسبقًا لإنفاقهم الاستهلاكي خلال شهر رمضان، في محاولة لإدارة نفقاتهم بشكل أكثر وعيا. ورغم ذلك، أظهر التقرير، الذي جاء تحت عنوان "دليل رمضان لاتجاهات المستهلكين في الأردن"، أن 54 % من الأردنيين يزيد إنفاقهم في هذا الشهر مقارنة ببقية أشهر السنة، ما يشير إلى أن التخطيط المسبق لا يحدّ بالضرورة من تضاعف المصاريف.
وبحسب نتائج الاستطلاع، فإن أكثر من نصف المستهلكين في الأردن ينفقون خلال رمضان ضعف إنفاقهم الشهري الاعتيادي، إذ أكد 54 % من المشاركين أن معدل إنفاقهم في الشهر الكريم يتجاوز ضعف ما ينفقونه في الأشهر الأخرى.
وفي هذا السياق، أوضح الخبير الاقتصادي حسام عايش، أن إنفاق الأسر الأردنية خلال رمضان لا يتضاعف فحسب، بل يصل لدى بعض الفئات إلى أربعة أضعاف معدل إنفاقهم المعتاد خلال السنة، ما يشكل ضغطا ماليا كبيرا ، خاصة أن متوسط الإنفاق الأسري في الأشهر العادية يشكل حوالي 32 % من إجمالي الدخل الشهري.
وهذا يعني أن النفقات الرمضانية تستنزف جزءا أكبر من دخل الأسر، مما يؤثر على توازنها المالي ويضعها أمام تحدٍ كبير لإدارة مصاريفها دون اللجوء إلى الاقتراض أو الاستدانة.
هل تغير مفهوم الكرم الرمضاني؟
هل تغير مفهوم الكرم الرمضاني؟
وحول تأثير الظروف الاقتصادية على مفهوم الكرم الرمضاني ومدى تعارضه مع الوعي الاستهلاكي، أوضح جريبيع أن المجتمع الأردني تحكمه منظومة العادات والتقاليد، لكن العوامل الاقتصادية تجبره على التغيير. مشيرا إلى أن العامل الاقتصادي هو الأكثر تأثيرا حاليا في تشكيل طبيعة المجتمع الأردني، لدرجة أنه يطال حتى منظومة القيم، مثل مفهوم الكرم.
وأضاف: جزء كبير من العزائم التي نشهدها في المجتمع الأردني مرتبط بـ "البرستيج الاجتماعي" أكثر من كونها ضرورة فعلية للتواصل وصلة الرحم.
ورغم ذلك، يعتقد جريبيع أن المجتمع الأردني قادر على التكيف مع الظروف، وهو ما قد يساعد على إعادة تعريف الكرم في رمضان، بحيث يظل المجتمع متمسكًا بالقيم الأصيلة، ولكن بطرق أكثر وعيا.
العزائم التشاركية: هل تنجح بتقليل التكاليف؟
مع تزايد الضغط المالي على الأسر خلال شهر رمضان، أصبح من الضروري التفكير في حلول تساعد في تقليل النفقات مع الحفاظ على الروح الاجتماعية والكرم الذي يميز الشهر الفضيل. من بين الحلول المبتكرة التي بدأ العديد من الأسر في اعتمادها هي العزائم التشاركية، التي تقوم على فكرة توزيع المسؤولية عن تحضير الطعام بين أفراد العائلة الممتدة، مثل الأشقاء وأبناء العمومة. ففي هذا النموذج، يتفق الجميع على أن يساهم كل منهم بجزء من وجبة الإفطار، سواء كان ذلك من خلال إحضار الطعام أو المساعدة في التحضير، بدلاً من أن يتحمل المضيف التكلفة كاملة.
"كنت أحب أعزم إخوتي وعائلاتهم، لكن بصراحة، مع الغلاء، أصبحت العزائم عبئًا بدلًا من أن تكون فرحة"، تقول ريما، ربة منزل من عمان.
وتضيف: "عندما اقترحت شقيقتي فكرة العزائم التشاركية، كنت مترددة، لكنني تفاجأت بتفاعل الجميع، حيث تولّى كل فرد تحضير جزء من الإفطار، مما جعل التجربة أكثر راحة ومتعة".
هذه الفكرة لا تساهم فقط في تقليل النفقات، بل توفر أيضا فرصة للتخطيط بشكل أفضل لكميات الطعام المطلوبة. فعادة ما يؤدي الإفراط في تحضير الطعام إلى هدره، حيث ينتهي به المطاف في سلة المهملات. لكن مع العزائم التشاركية، يتم تحديد الكميات بشكل دقيق بناء على عدد الأفراد المتجمعين، مما يساهم في تقليل الفائض من الطعام.
ولا تقتصر فوائد العزائم التشاركية على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى تعزيز الروابط الأسرية. فمن خلال التعاون في تحضير الإفطار، يُتاح لجميع أفراد العائلة الفرصة للمشاركة في العملية بشكل جماعي، مما يعزز مشاعر التعاون والمودة. كما أن هذا التعاون يخلق أجواء أكثر حميمية بين أفراد العائلة، حيث يصبح التجمع الرمضاني أكثر دفئًا وتواصلاً.المرونة الاجتماعية أمام الضغوط الاقتصادية
من ناحية أخرى، أكد الدكتور محمد جريبيع أن المجتمع الأردني يتمتع بالمرونة وقادر على التكيف مع مختلف الظروف، مما يجعل فكرة العزائم التشاركية مقبولة في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة.
وختم جريبيع حديثه بتقديم نصيحة لضبط الإنفاق في رمضان دون التأثير على صلة الرحم، مشددا على أن العائلة والأسرة من القيم المتوارثة التي تشكل عنصرا أساسيا في حياتنا.
وأكد أن الحفاظ على وهج العلاقات الاجتماعية لا يتطلب مبالغات مالية أو مزايدات، بل يكفي التواصل الدائم والمحبة الصادقة بعيدًا عن الضغوط الاقتصادية غير الضرورية.
ورغم التحديات الاقتصادية، يثبت رمضان أن الكرم لا يُقاس بالماديات وحدها، بل بالتكاتف الاجتماعي والوعي الاستهلاكي، ما يجعل العزائم التشاركية نموذجًا للحفاظ على صلة الرحم دون إرهاق الميزانية.